مفهوم الرغبة: محور الرغبة والإرادة
المحور الثاني: الرغبة
والإرادة
يلتبس مفهوم الرغبة Désir مع
مفاهيم أخرى، مثل مفهوم الحاجة Besoin غير أن
الرغبة والحاجة ليستا عبارتان منفصلتان كلية، إحداهما عن الأخرى، فهما قدرة يمتلكها كائن معين في الوجود فتتجلى
على شكل غريزي صرف لدى الحيوان فتعرف –القدرة- بالحاجة أي تلك الضرورة البيولوجية
(مثل الأكل، النوم، التناسل) والتي غايتها استمرار الكائن في الوجود،
ولما كان الإنسان يشترك مع الحيوان في هذا
المعطى الحاجي، فإنه يمتاز عنه بتلك
الكيفية التي يلبي بها حاجاته وفق مجاله الاجتماعي والثقافي المتنوع والمتطور عبر
التاريخ، فتكون الرغبة بذلك تحويل الحاجة
إلى ميل مرتبط بموضوع يفتقده الإنسان في وضعه الحاضر ويريد الحصول عليه.
1)
موقف سبينوزا
تحول المسافة إذن بين الذات الراغبة وموضوع رغبتها عائقا
يستلزم عنصر الوعي بصفته بعدا أساسيا في السلوك الإنساني، يعمل على تحديد وسائل كفيلة بتحقيق الرغبة، هذا يجعلنا نعتبر أن الإنسان كائن واع برغباته، التي تدفعه إلى تلبيتها، حتى وأن لم يعي تمام الوعي دوافعها الضمنية
والمضمرة، واستنادا عليه يقر سبينوزا بأن
الإنسان لا يسعى إلى شيء، لا يريده ولا
يشتهيه، ولا يرغب فيه لكونه يعتقده شيئا
طيبا، بل على العكس من ذلك يعتبره شيئا
طيبا لكونه يسعى إليه ويشتهيه ويرغب فيه.
يظهر أن لكل فرد رغباته الخاصة به، مادام يسقط على الشيء المرغوب صفات ذاتية تجعله
مرغوبا لديه، فهل هذا معناه أن الرغبة
مشروطة بالوعي كوحدة لقيمة الشيء المرغوب؟
يمكن القول بأن الرغبة والوعي متلازمان، فلكي يتجلى الوعي بصفته توجها نحو العالم
الخارجي، ينبغي أن تحدد توجهه هذا رغبة
ما.
2)
موقف هيجل
إن وجود الإنسان ذاته، الوجود الواعي بذاته، يستلزم ويفترض الرغبة، بعبارة أخرى، لكي يكون هناك وعي بالذات ينبغي أن تكون هناك
رغبة، ولكي تكون هناك رغبة ينبغي أن يكون
هنالك وعي بالذات، وبالتالي فالرغبة
والوعي بالذات ما هما إلا أشيء واحد. إن الوعي بالذات هو وعي راغب يتوجه نحو الخارج
ليعود إلى الذات، فالرغبة لا تتجلى في شكل
ميل إلى حفظ الذات فحسب، وبل وتأكيد لها
كذلك. إن الذات تسعى من جهة إلى التعرف عن ذاتها في الأشياء التي تمثل أمامها
كموضوع، فتقوم بتحويلها عن طريق الشغل أو الفن...
ومن جهة أخرى تسعى إلى الاعتراف بها من لدن الآخر أي من وعي آخر، لكن هذا الاعتراف لا يمنح وإنما تتنازعه الذوات،
من تعرفها على ذاتها إلى الاعتراف بها هو انتقال
من مجال الحياة العضوية أي الوجود الطبيعي للإنسان إلى مجال الحياة المجتمعية.إن
وعي الذات بذاتها إذن يتحقق عبر/ بواسطة رغبة الاعتراف التي تحملها ذاتان
متعارضتان كلاها ترغب في رغبة الأخرى، وهي
مرحلة ضرورية في تطور الوعي ليصبح وعيا بالذات، حيث يعطي البشر معنى وقيمة لوجدهم وللعالم
المحيط بهم.
3)
موقف جاك لاكان
إن خلاصة ما عبر عنه هيجل نجد لها تعبيرا مكثفا لدى
لاكان الذي يقر أن "... رغبة الإنسان تجد معناها في رغبة الآخر، لا لأن الآخر يحمل مفتاح موضوع الرغبة بل لأن
أول موضوع للرغبة يجب أن يعترف به الآخر".. باختلاف بسيط إذن فهيجل جعل
الرغبة والوعي متلازمان في حين سوف يجعل لاكان من عنصر اللاوعي عنصرا آخر بعيد
النظر في الذات المسيطرة على سلوكها وأهوائها ورغباتها؟.
إن الوعي موجب ومقنن للرغبة، بوصفها ميلا واعيا تجاه موضوع معين، ولغاية معينة، فهل معنى ذلك أن الوعي متحكم في ميولاته ونزوعه
أم أن هناك نزوعا وميولا لا يتحكم فيها؟ والمثال، في هذا الإطار أن الميل نحو شخص ما، قد لا تعي الذات دوافعه الحقيقية، ومن ثم تنفلت الرغبة من منطقة الوعي والإرادة، ذاك فعلا هو الخطاب الذي يوجهه التحليل النفسي
إلى الذات [مخاطبا] "أنت تعتقدين أنك تعرفين كل ما يجري في نفسك، (...) بل إنك لتذهبين إلى حد الاعتقاد بأن ما هو
نفسي مطابق لما هو شعوري، أي لما هو معروف
من طرفك، وذلك رغم البراهين الواضحة على
أن أشياء كثيرة تحدث في حياتك النفسية أكثر من تلك التي تتماثل إلى شعورك"
لقد أظهرت مكتشفات التحليل النفسي أن الذات ليست سيدة
مملكتها كما كان مترسخا في فلسفات الوعي، وقد تلبي رغبة دفينة في النفس وقفت العوائق
الاجتماعية والثقافية حاجزا دون تحقيقها، عبر آليات العلم، فلتات اللسان، زلات القلم...إلخ، وهذا ما أكده هو ما اعتبره سبينوزا عملا بالعلل
الحقيقية للرغبة؟ أليس ذلك الجهل هو انعدام معرفة بخبايا النفس وأعماقها والتي سوف
يضيف إليها اللاشعور إرضاءه هامة في تاريخ الفلسفة؟
إن الرغبة مكون بشري، أساسي يشكل ماهية الإنسان، بصفته ذاتا واعية، تطور وعيها ليصبح وعيا بالذات من خلال جدلية
الأنا والآخر، وبصفته ذاتا لا واعية في
جزء منها حيث تخرج الرغبة عن مجال السيطرة والتقنين.