صوفي لايف

مفهوم الوعي: محور الإدراك الحسي والشعور (مشكلة الوعي)

المحور الأول: مشكلة الوعي 'الإدراك الحسي والشعور)
1)        موقف راسل:
ربط برتراند راسل الوعي بالمدركات الحسية أو الخبرات الحسية حيث أكد على ضرورة عدم فصله (أي الوعي) عن مثيرات العالم الخارجي فهو عبارة عن ردود أفعال اتجاه وسطه. هذا يعني أن الوعي طاقة تميز الإنسان عن الجمادات. ومن ثم فإن راسل أكد على تلازم الوعي مع حالة اليقظة،  وليس مع حالة النوم أي أنه غير مستمر في الزمن. وأكد كذلك على ضرورة الانتباه إلى عامل اللغة لأنها، في نظره، جهاز ونظام غير منسق. وهنا نجده يميز بين نوعين من اللغة:  لغة مرشدة تمكن من فهم طبيعة العالم الذي نتحدث عنه،  ولغة مضللة وخداعة للتفكير. ومن ثمة فإن كثيرا من الفلاسفة الذين اعتمدوا عليها ضلوا وأضلوا.
إن الوعي بالذات عند راسل يعني أمرين هما:  دخول هذا الإنسان في علاقة مع العالم الخارجي، واكتشافه لذاته ولأفكاره ولعواطفه. أي أن هناك امتحانا للإنسان بإدراك وجوده الذاتي. وهنا يكمن مفهوم الوعي عند راسل ويتجلى. فعندما ندرك معطيات العالم الخارجي فإننا نكون، حسب راسل، فقط في مجال ردود الفعل اتجاه العالم، ونشترك في هذه الخاصية مع الجمادات. هذا يدل على أن الوعي لا يتحدد عند مستوى إدراك العالم الخارجي بل هو فقط رد فعل على النحو الذي تؤذيه الحجارة والجمادات عموما.
يرى راسل أنه يستحيل إدراك المادة إدراكا مباشرا،  وأن لها وجودا واقعيا ملموسا. ويؤكد راسل على المعرفة القائمة على التجربة وعلى الحواس وعلى إدراك الكليات إدراكا فوريا ومباشرا. وهو في الوقت نفسه يؤكد على التمييز بين الذات الواعية والموضوع. وعلى سبيل المثال لا الحصر إننا لا ندرك مدينة الرباط ومراكش إدراكا جزئيا، بل إننا ندركهما في إطار العلاقة الخارجية القائمة بينهما، وهذه العلاقة ليست من طبيعة نفسية صادرة عن الذات العارفة، ولكنها مستقلة عنها، تنشأ بطبيعتها في معزل عن فعل المعرفة في حد ذاتها.
مما سبق يتبين لنا أن الجزء الأساسي من مفهوم الوعي مرتبط بمدى إدراكنا للوجود الذاتي. وتحصل هذه العملية بواسطة الاستبطان، مما يدل على أن الاستبطان منهج يسمح ويمكن من ولوج العالم الداخلي في الإنسان وفهم علاقة الذات الواعية بمحيطها الخارجي، أي أنه في هذه الحالة لا يتعلق الأمر بشيء من بين أشياء العالم والجمادات بل بذات لها طبيعتها الخاصة بها. ومن ثمة فالشرط الأساسي لقيام الوعي وكل معرفة حسب راسل هو إدراك الوجود الذاتي للإنسان عن طريق الاستبطان، لأن الوعي ميزة خاصة بالإنسان، وليست فقط مجرد رد فعل اتجاه العالم الخارجي أو أنه فقط إدراك حسي له.
2)       موقف برجسون
إذا كان راسل يجمع بين لفظ الوعي وحالة اليقظة متجاهلا حالة النوم، فإن برجسون يتجاوز هذا الطرح ليؤكد على سيرورة الوعي في الزمن،  ليشير به إلى جميع العمليات السيكولوجية الشعورية. فالوعي أو الفكر عند برجسون ذو طبيعة مجردة أي أنه غير ملموس ويرفض أن يقترن بأي طابع نسبي أو ذاتي، حيث أنه دائم الحضور في حياة كل إنسان، لا يقبل القسمة إلى لحظات شعورية مرتبة بشيء ما، أو موقف معين، بحيث تتدفق وتنساب عبر الزمن حتى يصعب التمييز بين لحظاته. إنه إدراك الذات وللأشياء في ديمومتها واستمراريتها. أما تعريف الوعي بشكل واضح ونهائي فإنه يطرح صعوبة كبرى أدت ببرجسون إلى ربط الوعي بالذاكرة التي تحفظ ماضي الإنسان في الحاضر. إن الوعي أيضا قدرة على تجاوز الحاضر عقليا وتمثل صورة المستقبل. فالإنسان الذي لا ذاكرة لديه لا وعي له، لذلك فشرط وجود الوعي هو وجود الذاكرة واستقراره بها، ليصبح انفتاحا على الحاضر والماضي والمستقبل. فعندما نفكر في أي لحظة معينة فإننا نجد هذا الفكر يهتم بالحاضر وبما هو كائن، لكن من أجل تجاوز ما سوف يكون في المستقبل وهذا يعني أنه لا يوجد وعي عند برجسون دون مراعاة حياة المستقبل. فالمستقبل هو الذي يجعل الفكر يتقدم باستمرار دون انقطاع في الزمن ويجره إليه. لفهم طرح برجسون بصدد تعريف مفهوم الوعي نستحضر أنه ينتمي إلى فلسفة الحياة والسيرورة والحركة، ونؤكد على مجالين هامين في فلسفته عموما:  مجال المادة المتميزة الصلبة، ومجال الحياة والوعي المتواصل، وهذا يقع في نطاق الحدس فعن طريقه يمكن إثبات الحقيقة متجسدة في الصيرورة وليست مجرد الحياة والوعي.
3)        موقف ابن رشد
أما إبن رشد فقد تناول مفهوم الوعي في علاقته بالعالم الخارجي وطرح السؤال: هل الحس شرط لقيام الوعي بموضوعات العالم؟ فهو يرى ابن رشد على نحو معلمه أرسطو أن الإدراك الحسي شرط أولي وأساسي لقيام كل معرفة ووعي بموضوعات العالم الخارجي، على خلاف راسل الذي يعتمد منهج الاستبطان بدل منهج الاستقراء في إدراك العالم الداخلي. ولكن هل الإدراك الحسي بالمعنى الذي تقدم به ابن رشد هو الشرط الكافي والأولى لقيام كل معرفة وكل وعي بموضوعات العالم الخارجي؟.
4)        موقف ميرلوبونتيي

للإجابة على هذا التساؤل،  ينطلق موريس ميرلوبونتيي من فينومينولوجيا الإدراك الحسي ليصل إلى فينومينولوجيا الوعي والخبرة،  لأجل الكشف عن الطابع المفتوح للخبرة البشرية بصفة عامة. ويقصد بالإدراك الحسي تلك العودة إلى الأشياء والرجوع إلى المعرفة الأولية عن كل علم من أجل الوصف وليس من أجل التركيب. ويتساءل:  هل تعني العالم الخارجي؟ ويقول إن العالم ليس بمثابة الموضوع الذي يمثل أمام الذات الواعية،  إن هذه الذات ليست لها القدرة على تملكه. ولكنه الوسط الطبيعي أوالمجال الأولي الذي تتحقق فيه إدراكاتنا الحسية لعالم وجل أفكارنا. إن الوعي الإنساني حسب ميرلوبونتي يدخل في علاقة مشاركة مع العالم الخارجي،  فيه تتحقق الإدراكات الحسية التي يمكن اعتبارها شرط أساسي لقيام الوعي بهذا العالم.
تعليقات حول الموضوع

مواقعنا الإجتماعية

تابعنا على الفيسبوك

اكثر المواضيع تصفحا هذا الاسبوع

اكثر المواضيع تصفحا هذا الشهر

جميع الحقوق محفوظة لمدونة صوفي لايف © 2018