أحدث المقالات والدروس

ملخص وجدول مفهوم الحقيقة (محاور، إشكالات، فلاسفة، ومواقف)

author image
ملخص يتضمن تأطيرا إشكاليا ومواقف وتركيبا، مع جدول خاص بمفهوم الحقيقة ضمن مجزوءة المعرفة  يضم المحاور الثلاثة للمفهوم، وأطروحات ومواقف الفلاسفة المتداولة في الكتب الثلاثة المقررة للثانية باكالوريا.
وجديد هذا المنتوج هو عرضه لأغلبية المواقف الفلسفية المتضمنة في الكتب الدراسية الثلاثة المقررة في المنهاج المغربي، وهي (في رحاب الفلسفة، مباهج الفلسفة، منار الفلسفة) 


مجزوءة المعرفة / مفهوم الحقيقة

تقديم عام لمفهوم الحقيقة 

إن البحث عن الحقيقة كآلية من آليات التفكير الفلسفي، لا يعني بالضرورة حصر الحقيقة في مجال المعرفة الفلسفية، بل هي غاية كل معرفة مهما كانت مرجعيتها؛ ولذلك فالحقيقة هي هدف خالص للبحث المعرفي والتأمل العقلي في شتى المجالات، يمكن أن يكتسب صفة رأي أو نظرية أو موقف. غير أن الحديث عن الحقيقة هو في نفس الآن حديث عن تعدد أنواعها (حسية، عقلية، حدسية، فطرية، مكتسبة). لذا فمن اللازم أن توضع معاييرها في خانة البحث، حتى تصير حقيقة كونية وشاملة تؤسس لخطاب تحاوري تفاهمي بين الجميع، وتجعلها قيمة أخلاقية يرتكز عليها البناء الاجتماعي أو قيمة معرفية ضرورية لتطور المعرفة، وبالتالي تقدم وازدهار الحياة الإنسانية. فما الحقيقة ؟ ما الطريق المؤدي إليها؟ ما معاييرها ؟ ومن أين تستمد قيمتها؟


HHHHHHH المحور الأول : الرأي والحقيقة IIIIIII

تأطير إشكالي للمحور 

يثير الرأي باعتباره انطباعا شخصيا يكونه الفرد بناء على إدراكه الحسي المباشر في علاقته بالحقيقة مجموعة من الإشكالات، يمكن إبرازها على النحو التالي : ما السبيل المؤدي إلى بلوغ الحقيقة ؟ هل هو الرأي أم العقل أم طريق أخر ثم هل يمكن للرأي أن يرقى إلى مستوى الحقيقة ؟ وهل هذه الحقيقة معطاة أم يتم بناؤها ؟ وبأي طريقة تبني؟

موقف إيمانويل كانط

يقر بأن الرأي يرتبط بالحقيقة والمعرفة بشكل منطقي انطلاقا من وجهة نظر العقل الخالص وطريقته في إصدار الأحكام؛ أي أن طريق المعرفة يبداً بالرأي الذي ينقسم إلى اعتقاد غير كاف ذاتيا وموضوعيا يدعى المعرفة، واعتقاد كاف ذاتيا يسمى اعتقادا راسخا (بالنسبة لي)، ومكثف موضوعيا يسمى يقينا (بالنسبة لكل واحد). وارتباط الرأي بالحقيقة، يقتضي الكونية والضرورة، ومن ثم يقينا تاما يقود إلى الحقيقة. (مثل الاعتقاد - أو القيمة الذاتية للحكم في علاقته باليقين الذي يتوفر في الوقت ذاته على قيمة موضوعية من ثلاث درجات: الرأي، الإيمان، المعرفة).

موقف غوتفريد ليبنتس

يؤكد على دور الرأي وأهميته في مجال المعرفة الإنسانية، وبشكل خاص المعرفة العلمية ، فعدم الحسم القطعي مع مسالة من المسائل، يجعل بالإمكان تحديد درجة الاحتمال انطلاقا من المعطيات المتوفرة؛ ومن ثم بالمستطاع الحكم بطريقة عقلانية على الجزء الأكثر جلاء، وعليه فالبحث في درجات الاحتمال يكون أكثر أهمية مما يعطي للرأي القائم على الاحتمال وزنه في كل معرفة تاريخية أو معرفة برهانية، (إن الرأي القائم على الاحتمال قد يستحق اسم المعرفة، وإلا سوف يتم إسقاط كل معرفة تاريخية وغيرها من المعارف).

موقف أبو نصر الفاربي

يتحدث عن التناقض الحاصل بين الحقيقة وبادئ الرأي ؛ فبادئ الرأي هو تلك الأفكار المتداولة والمعارف العامية (الخطابة، الشعر، حفظ الأخبار والأشعار صناعة اللسان، صناعة الكتابة ...) السائدة والشائعة بين جميع الناس، والتي يعود مصدرها إلى الانطباعات الحسية، وتكون غير خاضعة للتمحيص أو البحث او التدقيق، وهي بذلك تتقاطع مع المعارف النظرية (الرياضيات العلم الطبيعي ) التي تؤدي إلى الحقيقة المحصل عليها بالفحص البرهاني، سواء كانت حقيقة علمية أو حقيقة فلسفية، ( تبين بالطرق الجدلية أنها ليست كافية بعد في تحصيل اليقين... والتعليم الخاص هو بالطرق البرهانية فقط، والمشترك الذي هو العام فهو بالطرق الجدلية أو بالخُطبية أو بالشٍّعرية).

موقف رونيه ديكارت

عمد إلى إعادة تأسيس معارفه على أساس أكثر متانة وصلابة ، فكان أن بداً يقوم بفحص الآراء المتداولة التي تلقاها من وسطه الاجتماعي منذ صغره ممارسا نوعا من الشلف المنهجي، بموجبه وضع كل الأشياء والأراء موضع تساؤل وفحص واختبار بهدف بلوغ اليقين والوصول إلى الحقيقة، وهذا ما سيجعله يتخلى عن الكثير من الأراء الشائعة. (بحيث كان علي أن أقوم، مرة واحدة في حياتي، بالتخلص من كل الآراء التي تلقيتها وصدقتها إلى ذلك الوقت... فإني سأوجه هجومي أولا  إلى المبادئ المؤسسة التي كانت تستند إليها آرائي السابقة).

موقف غاستون باشلار

يقيم قطيعة جذرية بين الرأي والحقيقة العلمية؛ فالرأي قائم على الاعتقاد والظن الشائع لدى الناس، وبذلك فهو يجعلهم يميلون بشكل طبيعي إلى التصديق بالمعطى المباشر، وهذا يدل على أن الرأي لا يفكر، ومن ثم ينبغي تجاوزه وهدمه لانه يقف عائقا أمام العلم الذي يؤسس الحقائق بعناية كبيرة، انطلاقا من عملية التخلص من الأفكار الشائعة واستبعادها، ثم البدء في الملاحظة ووضع الفرضيات واختبار مدى صحتها لتصير حقائق مبنية لاحقا. (تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه ...لذا لا يمكن أن نؤسس أي شيء على الرأي، بل يجب أولا أن نقضي عليه. وبالتالي فالرأي هو العائق الأول الذي يتعين تجاوزه في مجال المعرفة العلمية).

موقف بليز باسكال

ينتقد الزعم القائل بأن العقل هو المصدر الوحيد للحقيقة، ويعتبر أن هذا العقل لا يمكنه الإلمام بمعرفة كاملة حول كل الأشياء؛ فهناك مصدر آخر للحقيقة هو القلب، الذي يشكل مرتعا للحقائق القائمة على الشعور والعاطفة، والتي لا تحتاج إلى الاستعانة بالاستدلال العقلي، بل إن العقل ذاته هو الذي يستند، لتأسيس خطابه بكامله على المعارف الصادرة عن القلب. «نعرف الحقيقة لا بواسطة العقل فقط، ولكن أيضا بواسطة القلب».

موقف أفلاطون

إن منبع الحقيقة قائم في عالم المثل الذي يتم إدراكه بواسطة التأمل العقلي المجرد. أما العالم الحسي فهو واقع مظلم وخادع باعتبار أن ما تمدنا به الحواس لا يعكس الحقيقة، وإنما يشكل ظلالا واشباحا نتوهم أنها حقيقة. إن هذا يشبه الرؤية في كهف مظلم. وبالتالي لا ثقة في شهادة الحواس، ومن ثم وجب التحرر من قيود العالم الحسي والسير في عالم المعقولات المجردة. «هؤلاء السجناء القابعون في كهفهم المظلم لا يدركون من الحقيقة إلا ظلالا لأشياء مصنوعة».

تركيب عام للمحور 

يتضح أن هناك تباين في التموقف من علاقة الرأي بالحقيقة، فإذا كان هذا الراي المرتبط بالحقيقة والمعرفة بشكل منطقي من منظور الحقل الخاص (كانط). وقائما على أعلى درجات الاحتمال التي تجعل منه معرفة وحقيقة (ليبنتس)، بل يصل إلى بلوغ قيمة الحقيقة ذاتها باعتباره نابعا من الحقائق القلبية التي هي نوع من الراي (باسكال). فإنه في الجهة المقابلة، يشكل نقيض الحقيقة من حيث أنه تلك الافكار المتداولة والمعارف الحسية المشتركة التي لا تخضع للفحص ( الفارابي). والتي تتعارض مع المعارف والحقائق العلمية المبنية بشكل دقيق (باشلار)، كما أنه يجسد رأيا خارعا يتسرب بواسطة الحواس التي لا يمكن الوثوق فيها لقيامها على الوهم وقابليتها للخطا (أفلاطون)، مما يقتضي معه وضع كل الاراء موضع فحص اوتمحيص وشك منهجي للوصول إلى الحقيقة اليقينية (ديكارت).


HHHHHHH المحور الثاني : معايير الحقيقة IIIIIII

تأطير إشكالي للمحور 

بلا شك، يمثل الحديث عن الحقيقة في الوقت نفسه حديثا عن المعيار الذي ينبغي توفره لتكون حقا حقيقة حقيقية؛ غير أن هذا المعيار متعدد وليس واحدا، وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل: ما هي المعايير التي تتأسس عليها الحقيقة؟ هل هي تطابق الفكر مع ذاته أم مع الواقع أم هما معا؟ ثم هل هو معيار منطقي أم مادي؟ أم معيار عقلي أم تجريبي أم ماذا؟

موقف روني ديكارت

يقدم معيارين لبلوة الحقيقة هما الحدس والاستنباط، فالحدس هو ذاك الإدراك العقلي الفطرى البعيد عن الحس والخيال، والقائم على الوضوح والتميز والبساطة، وهو ببساطته يكون خالصا أكثر من الاستنباط، وبه يتم استبصار مجموعه من الأمور البسيطة التي يمكن اعتبارها بداهات، أما الاستنباط فهو مصدر غير مباشر لإدراك الحقائق، ولا يقل أهمية عن الحدس لأنه يقود إلى حقائق جديدة وصحيحة، يتم استنباطها من حقائق اولية. «جميع الأفعال العقلية التي نتمكن بواسطتها من الوصول إلى حقيقة الأشياء دون خشية من الوقوع في الخطا : هما اثنان فقط: الحدس والاستنباط».

موقف باروخ اسبينوزا

إن الحقيقة هي معيار ذاتها، ولا تحتاج إلى ما يكشفها أو يؤكدها من الخارج، فهي تحمل في ذاتها ذلك اليقين الواضح الذي يجسد النور الساطع الذي يزيل الظلام، ولا يتطلب شكا أو تمحيصا والمتجلي في البداهة التي تجعل الحقيقة معيارا في ذاتها. إنه المعيار الذي يكشف ويضيء جميع الأفكار ويجعلها متطابقة مع موضوعها الذي تحمله في ذاتها كيقين.. (للإنسان أن يعلم أن لديه فكرة موافقة لموضوعها ..أي عن كون الحقيقة إنما هي معيار ذاتها).

موقف إيمانويل كانط

لا يوجد معيار كوني مادي للحقيقة، لأن هذا المعيار إن كان يصلح لكل موضوع، فيلزم ألا يقبل بالتمييز بين الموضوعات لتحديد تطابق المعارف مع هذه الموضوعات؛ فمن العبث أن نشرط وجودا ماديا وكونيا للحقيقة يتجاوز كل اختلاف بين الموضوعات؛ ومن ثم فالمعيار الكوني السوي المتطابق مع مبادئ العقل وقوانين الفهم، هو الذي ينبغي أن يكون، لأن الحقيقة الصورية تكمن في مطابقة المعرفة لذاتها، بغض النظر عن الموضوعات وعن أي اختلاف بينها. «المعايير الصورية والكونية للحقيقة ليس شيئا آخر سوى المعايير المنطقية والكونية، التي تقوم عليها المطابقة بين المعرفة وذاتها، أو لنقل هي القوانين الكونية للفهم والعقل».

موقف دافيد هيوم

يقسم موضوعات العقل الإنساني وابحاثه التي يشتغل بها من حيث درجة الصحة والصدق التي تتوفر عليها إلى نوعين هما : القضايا التي لا يتأسس صدقها على أي شيء موجود في العالم الخارجي؛ أي تحافظ على صيغها المنطقية واللغوية، وليس فيها أي تناقض، وتعبر عن حقيقة عقلية صورية، تشكل مقدمة ضرورية للحقيقة التجريبية. تم القضايا التي يتوقف صدقها على مدى تلاؤمها وتطابقها مع موضوعها الخارجي، بحيث تعبر عن حقيقة تجريبية. (يمكن أن نقسم كل موضوعات العقل الإنساني أو أبحاثا إلى نوعين هما : علاقة الأفكار فيما بينها، وعلاقات الأفكار بالوقائع).

موقف مارتن هايدغر

الحقيقي هو الواقعي، لكن صفة الواقعي لا تنسب إلى الأشياء والوقائع فقط، بل تنسب كذلك إلى الأحكام المتعلقة بالكائن؛ فحقيقة الشيء تؤول في النهاية إلى واقع الشيء وماهيته ومدى تطابقه مع نفسه، بينما الشيء موضوع حكمه. ( الحقيقي والحقيقة يعنيان التوافق والتطابق بطريقة مزدوجة: أولا تطابق بين الشيء وما نتصوره عنه، ثم كتطابق بين ما يدل عليه الملفوظ وبين الشيء).

موقف جوتفريد ليبنتس

ينتقد التصور الديكارتي الذي لا يقبل الحقيقة إلا بقيامها على معياري الوضوح والتميز، ويعتبر خلافا لذلك، أن الحقيقة تعتمد على البرهان باعتباره فصلا من المنطق سليما وخاليا من الخلل على مستوى المادة والصورة. وذلك بغرض الفصل بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، أو بين الصواب والخطا. (لا نقبل أي اشيء ما لم يكن مبرهنا بشكل سليم، بمعنى الا يكون فيه خلل على مستوى المادة ولا على مستوى الصورة).

موقف لودفيغ فتغنشتاين

إن الإنسان يتعلم مجموعة من الوقائع، انطلاقا من الاعتقاد الذي قد يكون خاطئا أو صائبا، وهو ما يستدعي التحقق التجريبي منه، رغم أن هناك اعتقادات لا اتخضع للتجربة بتاتا . وهذا ما جعله يبحث في إمكانية وجود معيار يسمح بالاهتداء إلى  اليقين، من خلال مقارنة الأفكار والمعارف بالوقائع والتجارب. «لقد تعلمت الكثير من الأشياء وقبلت بها نتيجة ثقتي في سلطة كائنات بشرية، وبعد مسار تجريبي تاكدت من صحة بعضها وبطلان البعض الاخر».

موقف جون لوك : 

إن التجرية هي مصدر كل حقيقة، ذلك أن ما تمدنا به الحواس من معطيات، يجعلنا نحولها إلى أفكار مركية ومتآلفة بينها تنتج أفكارا أخرى، ولأن الهقل أشبه ما يكون بورقة بيضاء تستمد معرفتها من التجربة الحسية، فإن كل المجردة هي في منآى عن الحقيقة. «العقل صفحة بيضاء، يكتسب تجاربه بما يتلقاه من معطيات الحس».

تركيب عام للمحور 

يتبين في ضوء المواقف السابقة أن معيار الحقيقة يتحدد إجمالا في العقل وما يرافقه من آليات عقلية (الحدس، الاستنباط، البرهان، المنطق، البداهة)، كما يتحدد في التجربة ومعطياتها الحسية، وما تقدمه من خبرات ومعارف، وقد يتحدد بهما معا.

HHHHHHH المحور الثااث : الحقيقة بوصفها قيمة IIIIIII

تأطير إشكالي للمحور 

إذا كانت الحقيقة مطلب كل إنسان، والهدف الأساس من وراء كل معرفة، فإن لا احد يحاجج او يجادل في كون السعي وراء الحقيقة يعتبر فضيلة وغاية، رغم كونه سعيا مشروطا أحيانا. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الحقيقة هي قيمة بالدرجة الأولى. فما الذي يجعلها كذلك ؟ هل لأنها غاية في ذاتها أم لأنها وسيلة التحقيق ما يخدم حياة الإنسان ؟ بمعنى آخر، هل تتأسس الحقيقة على ما هو أخلاقي فاضل أم على ما هو عملي نافع ؟ ثم هل هي منفصلة عن اللاحقيقة والتيه والعنف أم مرتبطة بهم ؟

موقف مارتن هايدغر

إن قوة الحقيقة وقيمتها تكمن في مقدرتها على تخطي وضعية التيه التي يتخبط فيها الكائن الإنساني، فالإنسان يسير دائما في التيه الذي ينسيه ذاته كوجود، ويجعله يتخبط في تقديرها دائما، بمعنى أن الإنسان لا يحيى في الحقيقة وحدها، بل يقيم أيضا في اللاحقيقة التي لا تنفصل عن الحقيقة، بل وتمثل الماهية المضادة لها. وبالتالي لا يمكن تحديد ماهية الحقيقة إلا إذا تم وضع اللاحقيقة والتيه في الحسبان. (التيه هو الماهية المضادة الأساسية للماهية البدئية للحقيقة).

موقف إيريك فايل

ليست الحقيقة هي مشكلة الفلسفة، بل وليست حتى مشكلة أمام الفلسفة، لأن هذه الأخيرة باعتبارها بحثا عن الحقيقة تصطدم بمقابلاتها الأخرى؛ اللاحقيقة، العنف،اللذان يشكلان نقيضي الحقيقة الفعليين، وليس الخطأ كما يُتصور، وتجاوز هذه العوائق يقتضي استخدام العقل والخطاب انطلاقا من تطابق الفكر مع الواقع وليس انطلاقا من تطابق الإنسان مع الفكر. (أريد تحقيق معنى العالم بواسطة الخطاب والعقل والعمل المعقول).

موقف إيمانويل كانط

الحقيقة كقيمة أخلاقية هي غاية في ذاتها، بمعنى أن القول الصادق يكون لذاته، وليس لأغراض عملية نفعية او اعتبارات مصلحية شخصية، فقول الحقيقة هو واجب أخلاقي مطلق يتعين النطق به والعمل به في جميع الظروف والأحوال، ومهما كانت النتائج والدوافع. ( إن قول الحقيقة واجب يتعين اعتباره بمثابة أساس وقاعدة لكل الواجبات التي يتعين تأسيسها وإقامتها على عقد قانوني.).

موقف وليام جيمس

يصور الحقيقة من منظور نفعي براغماتي، فالأفكار الحقيقية لا تحمل في ذاتها أية قيمة خاصة، بل تستمد قيمتها من صلاحيتها الخارجية، بمعنى أن الحقيقة  كقيمة تقاس بمدى تأثيرها في الواقع، ومدى ما يمكن أن تحققه من منافع وفوائد انطلاقا من النشاط الإنساني الذي يقوم على تبني أفكارها، ( تكتسب الفكرة حقيقتها من خلال العمل الذي تنجزه، أي العمل الذي يقتضي أن تتحقق من نفسها بنفسهاء ويكون هدفها ونتيجتها التحقق الذاتي).

موقف كيير كيجارد

الحقيقة ليست مجرد معرفة مرسومة كغاية لبعض الخطوات المنهجية والمنطقية، فهي تنتقل إلى الإنسان من الخارج ليس بوصفها تعلما، بل هي موجودة فيه أصلا، وهي بهذا المعنى ليست قضية معرفية، وليست غاية بعيدة عن شرط وجود الإنسان. إنها قيمة أخلاقية تجسد الفضيلة بالمعنى السقراطي. ( الفضيلة بدورها تتحدد باعتبارها معرفة ).

موقف فريدريك نيتشه

يرى أن غريزة الحقيقة تأتي من رغبة الإنسان في حفظ بقائه تجاه الآخرين والعيش في سلم معهم، وحالة المساهمة هذه يصاحبها اكتساب غريزة الحقيقة الغامضة : بحيث يطمع الإنسان في العواقب الحميدة والممتعة للحقيقة، ومن هنا يكون مستعدا لمعاداة الحقائق المؤذية والهدامة. وبهذا المعنى تكون الحقائق حشدا من الاستعارات والكتابات والتشبيهات القائمة على اللغة التي أصبحت تبدو لشعب ما ذات سلطة قسرية. ان الحقيقة هي جملة من الأوهام المستعملة بشكل متكرر، والتي تم نسيانها على أنها كذلك. ( الحقائق هي أوهام نسينا أنها أوهام ).

تركيب عام للمحور 

هكذا إذن، تختلف الآراء بشأن القيمة التي يمكن أن تعطى للحقيقة، لكنه اختلاف وإن كان يرى الحقيقة تتصل تارة باللاحقيقة والتيه وتصطدم بالعنف، وترتبط تارة أخرى بالغاية الأخلاقية الفكرية أو الغاية النفعية العملية، فإنه يبقي مع ذلك على القيمة النظرية والعملية للحقيقة في طابعها المعرفي الإجمالي العام.

خلاصة عامة لمفهوم الحقيقة 

تبقى الحقيقة إذن تلك الغاية المنشودة من وراء كل بحث إنساني يسعی إلى المعرفة ويتطلع اليها. ولأن الحقيقة متعددة وتقدم أوجها متنوعة، فإن معاييرها تتحدد في ضوء الطريق المتبع للوصول إليها، إذ تتأرجح بين النهج العقلي أو بين النهج التجريبي أو حتى بین النهج النقدي الذي يضع كمعيار للفكرة الصحيحة الحقيقة في ذاتها . وقد كسر التصور البراغماتي للحقيقة باعتبارها تتلخص في ما هو مفيد تلك التحصينات التي وضعتها نظرية التوافق والتطابق التي ميزت الحقيقة عن أضدادها المتمثلة في الخطإ والوهم والقابلية للتكذيب، وهكذا نزعت عن الحقيقة ملامح الإطلاقية والقدسية، وتم ربط الحقيقة إما بإرادة القوة، أو بإرادة المعرفة والسلطة السائدة في مجتمع ما. فأصبحت قيمة الحقيقة مهددة باللاحقيقة وبالضياع والتيه وتفكك خطاباتها، وبالتالي اختيار طريق العنف. لكن هذا لا يلغي ولا يعفي الحقيقة من بناء قيمة أخلاقية جديدة لها بناء على خطابات عقلانية أكثر تماسكا وغنى، تساهم في تقدم المعرفة البشرية، ومن ثم تطور الحياة الإنسانية.

تركيب عام لمجزوءة المعرفة 

يعتبر الوجود الإنساني وجودا معرفيا منتجا للمعارف والأفكار، وقائما على نشاط عقلي يربط الإنسان بذاته وبعالمه، من أجل تفسير واقعه المحيط به، وإضفاء معان وقيم عليه لبلوغ حقيقته. لكن هذه المعرفة تفترض مقاربة مفتوحة يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي. هكذا وبالبحث عن المعرفة البشرية كمعرفة موضوعية، نجدها من حيث هي معرفة علمية تجريبية، تتعامل مع الواقع بمناهج اختبارية قائمة على التجربة والصياغة النظرية بعيدا عن الآراء والتأملات الذاتية. إنها الموضوعية التي تتم كذلك عندما يتم إخضاع الظاهرة الإنسانية لمناهج تجريبية تفسيرية مستقدمة من مناهج علوم الطبيعة. هذا في الوقت الذي تكون فيه الحقيقة الموضوعية هي الحقيقة العلمية الرياضية والتجريبية المعبرة عن الواقع في استقلال عن تدخل الذات.
أما المعرفة البشرية كمعرفة ذاتية، فتحضر عندما يتوجه العالم إلى الطبيعة ويستنطقها، بل ويتجاوز موضوعية الواقع باستعماله لافتراضات خيالية أو نظرية أثناء التجربة العقلية الذاتية. إن هذه الذاتية تبرز بوضوح في العلوم الإنسانية حينما يدرس العالم ذاته وهو في ذات الوقت موضوع الدراسة. مما يستدعي استحضار مناهج خاصة ترتكز على التفهم والدلالة والقيم، وتراعي خصوصيات الظاهرة الإنسانية، وهذا ما يجعل الحقيقة تأخذ طابعها الذاتي من خلال الرأي والمعرفة الوجدانية المتمثلة في التعاطف والتفهم كذلك.
هكذا إذن، يتبين أنه من الصعوبة أن نضع خطا فاصلا بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي في مجال المعرفة الإنسانية، لأن كل ما في الأمر هو أنه ينبغي التركيب بين المفاهيم والمبادئ الذاتية والمفاهيم والمبادئ الموضوعية (الواقع المبني، العقلانية المفتوحة عالم المعنى والدلالة، الحقائق النسبية، التغير وعالم المعيش...). إن هذا التداخل يفرض على المعرفة البشرية حوارا دياليكتيكيا مفتوحا، يرتبط فيه العقلى بالواقعي، الحقيقى باللاحقيقي، لذلك تبدو مفاهيم النظرية والتجربة، علوم الإنسان والحقيقة، غير منفصلة عن بعضها البعض، مما يتطلب استحضار المفهومين الآخرين أثناء دراسة أحد المفاهيم الثلاثة منهم.