درس الحقيقة بوصفها قيمة / مفهوم الحقيقة / مجزوءة المعرفة
HHHHHHH المحور
الثااث : الحقيقة بوصفها قيمة IIIIIII
تأطير إشكالي للمحور
إذا كانت الحقيقة مطلب كل إنسان، والهدف الأساس من وراء كل
معرفة، فإن لا احد يحاجج او يجادل في كون السعي وراء الحقيقة يعتبر فضيلة وغاية، رغم
كونه سعيا مشروطا أحيانا. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الحقيقة هي قيمة
بالدرجة الأولى. فما الذي يجعلها كذلك ؟ هل لأنها غاية في ذاتها أم لأنها وسيلة
التحقيق ما يخدم حياة الإنسان ؟ بمعنى آخر، هل تتأسس الحقيقة على ما هو أخلاقي فاضل
أم على ما هو عملي نافع ؟ ثم هل هي منفصلة عن اللاحقيقة والتيه والعنف أم مرتبطة بهم
؟
موقف مارتن هايدغر :
إن قوة الحقيقة وقيمتها تكمن في
مقدرتها على تخطي وضعية التيه التي يتخبط فيها الكائن الإنساني، فالإنسان يسير
دائما في التيه الذي ينسيه ذاته كوجود، ويجعله يتخبط في تقديرها دائما، بمعنى أن
الإنسان لا يحيى في الحقيقة وحدها، بل يقيم أيضا في اللاحقيقة التي لا تنفصل عن
الحقيقة، بل وتمثل الماهية المضادة لها. وبالتالي لا يمكن تحديد ماهية الحقيقة إلا
إذا تم وضع اللاحقيقة والتيه في الحسبان. (التيه هو الماهية المضادة
الأساسية للماهية البدئية للحقيقة).
موقف إيريك فايل :
ليست الحقيقة هي مشكلة الفلسفة، بل
وليست حتى مشكلة أمام الفلسفة، لأن هذه الأخيرة باعتبارها بحثا عن الحقيقة تصطدم
بمقابلاتها الأخرى؛ اللاحقيقة، العنف،اللذان يشكلان نقيضي الحقيقة الفعليين، وليس
الخطأ كما يُتصور، وتجاوز هذه العوائق يقتضي استخدام العقل والخطاب انطلاقا من
تطابق الفكر مع الواقع وليس انطلاقا من تطابق الإنسان مع الفكر. (أريد تحقيق
معنى العالم بواسطة الخطاب والعقل والعمل المعقول).
موقف إيمانويل كانط :
الحقيقة كقيمة أخلاقية هي غاية في
ذاتها، بمعنى أن القول الصادق يكون لذاته، وليس لأغراض عملية نفعية او اعتبارات
مصلحية شخصية، فقول الحقيقة هو واجب أخلاقي مطلق يتعين النطق به والعمل به في جميع
الظروف والأحوال، ومهما كانت النتائج والدوافع. ( إن قول الحقيقة واجب يتعين
اعتباره بمثابة أساس وقاعدة لكل | الواجبات
التي يتعين تأسيسها وإقامتها على عقد قانوني.).
موقف وليام جيمس :
يصور الحقيقة من منظور نفعي براغماتي،
فالأفكار الحقيقية لا تحمل في ذاتها أية قيمة خاصة، بل تستمد قيمتها من صلاحيتها
الخارجية، بمعنى أن الحقيقة كقيمة
تقاس بمدى تأثيرها في الواقع، ومدى ما يمكن أن تحققه من منافع وفوائد انطلاقا من
النشاط الإنساني الذي يقوم على تبني أفكارها، ( تكتسب الفكرة حقيقتها من
خلال العمل الذي تنجزه، أي العمل الذي يقتضي أن تتحقق من نفسها بنفسهاء ويكون
هدفها ونتيجتها التحقق الذاتي).
موقف كيير كيجارد :
الحقيقة ليست مجرد معرفة مرسومة كغاية
لبعض الخطوات المنهجية والمنطقية، فهي تنتقل إلى الإنسان من الخارج ليس بوصفها
تعلما، بل هي موجودة فيه أصلا، وهي بهذا المعنى ليست قضية معرفية، وليست غاية
بعيدة عن شرط وجود الإنسان. إنها قيمة أخلاقية تجسد الفضيلة بالمعنى السقراطي. ( الفضيلة
بدورها تتحدد باعتبارها معرفة ).
موقف فريدريك نيتشه :
يرى أن غريزة الحقيقة تأتي من رغبة
الإنسان في حفظ بقائه تجاه الآخرين والعيش في سلم معهم، وحالة المساهمة هذه
يصاحبها اكتساب غريزة الحقيقة الغامضة : بحيث يطمع الإنسان في العواقب الحميدة
والممتعة للحقيقة، ومن هنا يكون مستعدا لمعاداة الحقائق المؤذية والهدامة. وبهذا
المعنى تكون الحقائق حشدا من الاستعارات والكتابات والتشبيهات القائمة على اللغة
التي أصبحت تبدو لشعب ما ذات سلطة قسرية. ان الحقيقة هي جملة من الأوهام المستعملة
بشكل متكرر، والتي تم نسيانها على أنها كذلك. ( الحقائق هي أوهام نسينا أنها
أوهام ).
تركيب عام للمحور
هكذا إذن، تختلف الآراء بشأن القيمة التي يمكن أن تعطى
للحقيقة، لكنه اختلاف وإن كان يرى الحقيقة تتصل تارة باللاحقيقة والتيه وتصطدم
بالعنف، وترتبط تارة أخرى بالغاية الأخلاقية الفكرية أو الغاية النفعية العملية،
فإنه يبقي مع ذلك على القيمة النظرية والعملية للحقيقة في طابعها المعرفي الإجمالي
العام.
خلاصة عامة لمفهوم الحقيقة
تبقى الحقيقة إذن
تلك الغاية المنشودة من وراء كل بحث إنساني يسعی إلى المعرفة ويتطلع اليها. ولأن
الحقيقة متعددة وتقدم أوجها متنوعة، فإن معاييرها تتحدد في ضوء الطريق المتبع
للوصول إليها، إذ تتأرجح بين النهج العقلي أو بين النهج التجريبي أو حتى بین النهج
النقدي الذي يضع كمعيار للفكرة الصحيحة الحقيقة في ذاتها . وقد كسر التصور البراغماتي
للحقيقة باعتبارها تتلخص في ما هو مفيد تلك التحصينات التي وضعتها نظرية التوافق
والتطابق التي ميزت الحقيقة عن أضدادها المتمثلة في الخطإ والوهم والقابلية للتكذيب،
وهكذا نزعت عن الحقيقة ملامح الإطلاقية والقدسية، وتم ربط الحقيقة إما بإرادة القوة،
أو بإرادة المعرفة والسلطة السائدة في مجتمع ما. فأصبحت قيمة الحقيقة مهددة باللاحقيقة
وبالضياع والتيه وتفكك خطاباتها، وبالتالي اختيار طريق العنف. لكن هذا لا يلغي ولا
يعفي الحقيقة من بناء قيمة أخلاقية جديدة لها بناء على خطابات عقلانية أكثر تماسكا
وغنى، تساهم في تقدم المعرفة البشرية، ومن ثم تطور الحياة الإنسانية.
تركيب عام لمجزوءة المعرفة
يعتبر الوجود
الإنساني وجودا معرفيا منتجا للمعارف والأفكار، وقائما على نشاط عقلي يربط الإنسان
بذاته وبعالمه، من أجل تفسير واقعه المحيط به، وإضفاء معان وقيم عليه لبلوغ
حقيقته. لكن هذه المعرفة تفترض مقاربة مفتوحة يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي. هكذا
وبالبحث عن المعرفة البشرية كمعرفة موضوعية، نجدها من حيث هي معرفة علمية تجريبية،
تتعامل مع الواقع بمناهج اختبارية قائمة على التجربة والصياغة النظرية بعيدا عن الآراء
والتأملات الذاتية. إنها الموضوعية التي تتم كذلك عندما يتم إخضاع الظاهرة
الإنسانية لمناهج تجريبية تفسيرية مستقدمة من مناهج علوم الطبيعة. هذا في الوقت
الذي تكون فيه الحقيقة الموضوعية هي الحقيقة العلمية الرياضية والتجريبية المعبرة
عن الواقع في استقلال عن تدخل الذات.
أما المعرفة البشرية كمعرفة ذاتية،
فتحضر عندما يتوجه العالم إلى الطبيعة ويستنطقها، بل ويتجاوز موضوعية الواقع
باستعماله لافتراضات خيالية أو نظرية أثناء التجربة العقلية الذاتية. إن هذه
الذاتية تبرز بوضوح في العلوم الإنسانية حينما يدرس العالم ذاته وهو في ذات الوقت
موضوع الدراسة. مما يستدعي استحضار مناهج خاصة ترتكز على التفهم والدلالة والقيم،
وتراعي خصوصيات الظاهرة الإنسانية، وهذا ما يجعل الحقيقة تأخذ طابعها الذاتي من
خلال الرأي والمعرفة الوجدانية المتمثلة في التعاطف والتفهم كذلك.
هكذا إذن، يتبين أنه من الصعوبة أن
نضع خطا فاصلا بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي في مجال المعرفة الإنسانية، لأن كل ما
في الأمر هو أنه ينبغي التركيب بين المفاهيم والمبادئ الذاتية والمفاهيم والمبادئ
الموضوعية (الواقع المبني، العقلانية المفتوحة عالم المعنى والدلالة، الحقائق النسبية،
التغير وعالم المعيش...). إن هذا التداخل يفرض على المعرفة البشرية حوارا
دياليكتيكيا مفتوحا، يرتبط فيه العقلى بالواقعي، الحقيقى باللاحقيقي، لذلك تبدو
مفاهيم النظرية والتجربة، علوم الإنسان والحقيقة، غير منفصلة عن بعضها البعض، مما
يتطلب استحضار المفهومين الآخرين أثناء دراسة أحد المفاهيم الثلاثة منهم.