درس التاريخ وفكرة التقدم / مفهوم التاريخ / مجزوءة الوضع البشري
المحور
الثاني التاريخ وفكرة التقدم
تأطير اشکالی
إن البحث في تسلسل أحداث الماضي،
والبحث في حركية الوقائع التاريخية، يجعلنا نتساءل عن وجهة التاريخ : هل هو تقدم أم
تکرار؛ بمعنى هل بصح تمثل حركته في صورة سلسلة منتظمة لا انقطاع بين حلقاتها مثلما ذهبت إلى ذلك فلسفات التقدم.
أم أن الصدفة والعرضية والفجائية تلغي أي اكتمال أو استمرار لتقدمه ؟
1- موقف کارل مارکس :
إن الناس يدخلون في علاقات إنتاج تعكس مستوى تطور قوى الإنتاج المادی في مجتمعاتهم،
أي البنية الاقتصادية التحتية التي يمكن اعتبارها المحدد الأساسي لأشكال الوعي الاجتماعي
المعبر عنه بالبنية الفوقية، وهكذا فالوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي،
وليس العكس، ومن شأن التصادم بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج أن يخلق تناقضا وصراعا
اجتماعيا هو الصراع الطبقي الذي ينتهي بميلاد
مجتمع جديد وتاريخ جديد، وبالتالي يشكل المحرك الأساسي لتقدم التاريخ، «في مرحلة
معينة من تطور قوى الإنتاج المادية للمجتمع تدخل هذه الأخيرة في تناقض مع علاقات الإنتاج
التبدأ مرحلة الثورات الاجتماعية».
2- موقف موريس ميرلوبونتي :
إذا كان التاريخ يتقدم وفق منطق محدد وخاضع للضرورة، فهو ليس نسقا مغلقا أو واحدا
أو ثابتا؛ إذ لا بد من الاهتمام بدور العرضية الذي يبقى أساسيا في التاريخ،
فهناك عناصر فجائية مباغتة يمكن أن تظهر لتحرف مسار التاريخ وتعدله نحو هذا الاتجاه
أو ذاك. « تعني عرضية التاريخ أن جدليته يمكن أن تنحرف عن الأهداف التي اختارتها
لنفسها».
3- موقف جوتفريد ليبنتس :
ليس للتاريخ هدف، يمثل مبتغاه وكماله وبالتالي نهايته، لأن تقدم التاريخ قائم على
عدم القابلية للاكتمال، فهو سيرورة متصلة ولامتناهية تسير في منحى دائم يهدف إلى اكتشاف
مستقبل فيه الكثير من الخيرات. « لا يمكن للتقدم أن يكون تاما ومكتملا».
4- موقف كلود ليفي ستراوس :
إن السير التاريخي للمجتمعات البشرية لا يكون على شكل خط متصل متصاعد أو كسلم، بل
يكون على شكل انفصالات وقفزات وطفرات إلى الأمام أو إلى الوراء، فالتقدم حركة مراوحة
في المكان تتضمن الخسارة مثلما تتضمن الربح، وهو تطور متقطع، تحكمه الصدفة والمراوحة.
مما ينفي عن التقدم أي خط تطوري متصاعد. « ان التقدم ليس ضروريا، ولا متصل الحلقات، بل
يجري عبر قفزات أو وثبات... عبر تحولات فجائية».
5- موقف إدوارد هالیت کار :
يرفع اللبس القائم بين مفهومي التطور والتقدم، معتبرا أن التطور
ذو حمولة بيولوجية تشير إلى النشوء والارتقاء كما في الوراثة البيولوجية، في حين يرتبط
التقدم بأفق سوسيوتاريخي، ولا يتجه في خط مستقيم، متواصل، لا توقف ولا انعطاف فيه،
بل يتسم بالانقطاع وعدم الاستمرارية. « إن أي تقدم نستطيع أن نشاهده في التاريخ
هو بالتأكيد غير مستمر في أي من الزمان أو المكان».
6- موقف هربرت مارکوز :
يميز في التقدم التاريخي بين نموذجين: تقدم كمي يتجلى في تنامي معارف الإنسان وتراكم
قدراته وخبراته لأجل تملك الطبيعة والسيطرة على موضوعاتها، وتقدم كيفي أو نوعي يتمثل
في تقدم التاريخ الإنساني في اتجاه تحقق الحرية الإنسانية، وصوب تحقيق ماهية الإنسان،
« يمكن أن ندعو هذا المفهوم الكمي للتقدم بمفهوم التقدم التقني، وأن نقابله بالمفهوم
الكيفي للتقدم كما تم إنشاؤه في التاريخ».
7- موقف ریمون آرون :
يقدم قراءة ابستيمولوجية لفكرة التقدم؛ بحيث يحاول تحديد التقدم من خلال رفضه لأحكام
القيمة المرتبطة به، ومن خلال مقارنته بالتفوق معتبرا أن ما يميز التقدم هو أنواع النشاط
الإنساني التي تفرض الاعتراف بتفوق الحاضر على الماضي مع الاحتفاظ بأعمال الأجيال السابقة
فضلا عن اعتبار النشاط العلمي معرفة متراكمة مميزة لسياق التقدم. « المعارف العلمية
في عصرنا، تنمو وتتراكم، تنقلنا من حقل خاص لتقدم هذه المعارف الى إثبات التقدم العام».
تركيب
إذا كانت
سيرورة التاريخ فاضحة لمنطق تقدمي يقول بحتمية التقدم اعتمادا على الضرورة أو على التناقض
بين قوى الانتاج وعلاقات الإنتاج أو مراكمة الأحداث والخبرات، فإن هذه السيرورة كذلك
محكومة بمنطق لا تقدمي يجعل التقدم نفسه غير مكتمل وغير مستمر لما للصدفة والعرضية
من دور في مباغتة التاريخ وتعديل مساراته.