درس مفهوم الواجب من مجزوءة الأخلاق (محاور، إشكالات، فلاسفة، ومواقف)
ملخص وجدول خاص بمفهوم الواجب ضمن مجزوءة الأخلاق يضم المحاور الثلاثة للمفهوم، وأطروحات ومواقف الفلاسفة المتداولة في الكتب الثلاثة المقررة للثانية باكالوريا.
وجديد هذا المنتوج هو عرضه لأغلبية المواقف الفلسفية المتضمنة في الكتب الدراسية الثلاثة المقررة في المنهاج المغربي، وهي (في رحاب الفلسفة، مباهج الفلسفة، منار الفلسفة)
مفهوم الواجب
تقديم عام حول مفهوم الواجب
إذا كان الإنسان يفتقد لخطاطة طبيعية توجه حياته، فلأنه يملك العقل والإرادة لكي يختار ويوجه حياته. لكن إرادته قد تجعله يسلك وفقا لما يعتقد أنه يخدم مصلحته ويحقق منفعته وهو ما قد ينتج عنه صراع واختلاف، ولهذا اعتمد الإنسان القانون والأخلاق لتنظيم العلاقات. وإذا كان القانون كسلطة مادية تمارس إكراها خارجيا عليه، لإلزامه بما ينبغي فعله وما ينبغي تجنبه، فإن للأخلاق سلطة توجه سلوكه انطلاقا من ذاك الواجب الناتج عن إحساس داخلي لدى الإنسان بتحمل المسؤولية تجاه الذات واتجاه الآخرين، والصادر كذلك عن الخضوع للمعايير الأخلاقية التقليدية التي تجعل الجماعة أو المجتمع هو الذي يملك حق تبرير توجيه سلوك الفرد. وعليه فإن هذا الوعي الأخلاقي هو ما يحدد السلوك الإنساني طبقا لتلك القواعد التي تجعله يتعامل مع الآخرين من خلال القيم المثلى الفضلى. فمن أين يستمد الواجب سلطته؟ ثم، كيف يتم الوعي الأخلاقي بهذا الواجب؟ وهل هو مجرد ترديد لصدی صوت الفرد أم أنه يتجاوزه إلى مستوى المجتمع ككل؟
المحور الأول: الواجب والإكراه
تأطير إشكالي لمحور الواجب والإكراه
الإنسان حيوان أخلاقي بامتياز، حاول أن يضفي على أفعاله صفة الأخلاقية، غير أن هذا الإضفاء لا يكون إلا بالشعور بذلك الواجب الذي غالبا ما يرفق بخاصية الإلزام أو الإكراه التي تشعر بها الذات أمام القانون الأخلاقي، وهي الصفة التي يلغيها آخرون معتبرين أن الواجب هو فعل عفوي تلقائي إرادي وحر. فهل يمكن أن يكون الواجب بالفعل حرا أم أن قبوله لا يتم سوى تحت الضرورة والإكراه؟
الإشكالية المحورية
هل الواجب يصدر عن إرادة فاعلة وحرة؟ أم هو فعل تحكمه الضرورة والإكراه؟
1)- موقف إيمانويل كانط
الواجب هو فعل إلزامي إكراهي، نقوم به احتراما للقانون الأخلاقي الذي يشرعه العقل الإنساني، وتجسده الإرادة الخيرة والحرة. إنها إرادة لا تخضع لأي مبدإ خارجي موجه لها، كما لا تخضع للميول الذاتية التي توجه الفعل الإنساني نحو غايات معينة، والتي قد تأتي أحيانا متوافقة مع القانون الأخلاقي، ومع ذلك لا يستحق ذلك الفعل قيمة أخلاقية، لأنه لم يصدر عن احترام القانون الأخلاقي، وإنما صدر عن دوافع أخرى، صادف أن تطابقت مع القانون الأخلاقي. إن الشعور باحترام القانون هو الواجب، ومع أنه واجب يحمل طابع الإكراه والإلزام، مادام يعارض كل الميول الذاتية، إلا أنه مع ذلك واجب يتسم بالالتزام والحرية، لأن الشخص لا يخضع إلا لتشريعات العقل وللإرادة الحرة الواعية. (إن الضرورة الاخلاقية هي اكراه أي إلزام، وكل فعل مؤسس عليها، يجب أن نتمثله بوصفه واجبا وليس مجرد طريقة للفعل نرغب فيها.).
2)- موقف جون ماري غويو
يتتقد الطابع الإلزامي والعقلي للواجب، الذي قد يجعل الفعل الإنساني فعلا صوريا مجردا من الحياة ومن المعاناة التي تبرز أحيانا في كثرة الواجبات، وأحيانا أخرى في صراع الواجبات ذاتيا. لذا يعتبر القيام بالواجب هو نتاج قدرة طبيعية، تدفع الفرد إلى القيام بفعل ما، لا بسبب إكراه أو إلزام، وإنما فقط استجابة لميل طبيعي في الإنسان. وهذا معناه أن الفرد الذي يهب لمساعدة صديقه، إنما يفعل ذلك بشكل طبيعي كما معناه الشعور الفياض بأننا عشنا وأننا أدينا مهمتنا، وسوف تستمر الحياة بعدنا من دوننا، ولكن لعل لنا بعض الفضل في هذا الاستمرار، ناتج عن ذلك القانون الطبيعي الشامل، وهكذا يغدو الواجب شعورا غريزيا من جهة، ومن جهة ثانية، يتناسب وقدرة كل فرد بدون أي إكراه، (أن يشعر المرء شعورا داخليا بما هو قادر على فعله من أمر عظيم، فهذا شعور أول بما يجب عليه فعله، فالواجب.. هو فيض من الحياة.).
3)- موقف إيميل دوركاهيم
يرى أن القواعد الأخلاقية هي قواعد آمرة ملزمة، وفي نفس الوقت قواعد مرفقة بالرضا والرغبة في تحقيق العمل، وبهذا المعنى يكون الواجب إلزاما مرغوبا فيه، ذلك أنه لا ينبغي أن يحتوي الواجب على حد - التصور الكانطي- على طابع الإلزام والإكراه فقط، بل لا بد من تحقيقه على أحسن وجه من خلال إضافة عنصر الرغبة في القيام بالواجب، حتى يحس الفرد بالمسؤولية ويجازى على أفعاله الواجبة، (لم يكن أبدا هنالك فعل أخلاقي تم القيام به بشكل خالص على أنه واجب، بل يكون من الضروري دوما أن يظهر على أنه جيد ومستحسن ومرغوب فيه).
4)- موقف فريدريك هيغل
إن الحديث عن مفهوم الواجب، إنما هو حديث عن واجبات الفرد تجاه الدولة وحقوقه عليها؛ فالفرد الذي يؤدي واجبه يقتضي معه ذلك تحقيق مصلحته الخاصة التي يتم إلحاقها بالمصلحة العامة للدولة، وعليه فالفرد الخاضع للواجبات يجد في تحقيق كلا المصلحتين حماية لشخصيته ولملكيته باعتباره مواطنا، وافتخارا بانتمائه لهذا المجتمع، ومن ثم تتحقق الفكرة المطلقة من خلال التركيب بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة. (ففي إتمامه للواجب على شكل خدمة وعمل من الدولة فإن الفرد يضمن بالمقابل الحفاظ على بقائه واستمراره.).
5)- موقف دافيد هيوم
يميز في الواجبات الأخلاقية بين نوع تندرج فيه كل الواجبات التي يجد الناس أنفسهم مدفوعين إليها، بفعل الغريزة أو الميل الطبيعي المتجلي في الانسياق وراء تحقيق المصلحة الشخصية (حب الذات وحب التملك ...)، ثم نوع الواجبات الأخلاقية القائمة على الإلزام المتمثل في ضرورات المجتمع البشري والمعبر عنها في العدالة والإخلاص، وإهمال النوع الثاني لصالح النوع الأول سيجعل من المستحيل المحافظة على استمرار المجتمع، ولذلك كان لزاما مراقبة هذا النوع الطبيعي الأول. (تتم مراقبة ذلك الميل الأولي أو تلك الغريزة بالتفكير والتجربة اللذين يبينان لنا مدى الآثار الوخيمة التي تنتج عن الانحلال التام للمجتمع في حالة عدم تقيدنا بأية واجبات).
تركيب عام لمحور الواجب والإكراه
هكذا إذن يبقى الواجب متأرجحا بين الالتزام والأمر من ناحية، وبين الإرادة والاختيار من ناحية أخرى، يتجاوز خاصية الأفراد ليعبر عن قانون يتجاوزهم إلى الآخرين ليصير صالحا وشاملا، ويجسد فعلا صادرا عن كائن عاقل قادر على الالتزام بالقيم العليا في علاقته بذاته وبالآخرين.
المحور الثاني: الوعي الأخلاقي
تأطير إشكالي لمحور الوعي الأخلاقي
إذا كان الوعي يعني ذلك الحدس الذي يملكه الفكر تجاه حالاته وانفعالاته، وبه يدرك ذاته والعالم الخارجي، فالوعي الأخلاقي هو قدرة الفكر على إصدار أحكام معيارية على الأفعال الإنسانية. فما هو مصدر هذا الوعي الأخلاقي؟ وما علاقته بالواجب الأخلاقي؟
الإشكالية المحورية
ما علاقة مفهوم الواجب بالوعي الأخلاقي؟
1)- موقف أحمد بن مسكويه
يقدم تصورا إسلاميا لمسألة الوعي الأخلاقي، مبرزا كيفية نشوء هذا الوعي لدى الناس انطلاقا من اختلاف طبائعهم وأفعالهم، ومن ثم فهو يعتبر أن الخلق حال تكون عليها النفس الإنسانية، إما بشكل طبيعي أصله المزاج الكامن في الإنسان، والذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب والهيجان.. فيكون منافيا للعقل. وإما ما يكون مستفادا بالعادة والتدريب، منقحا بالتهذيب والتأديب وقائما على مبدإ الروية والفكر، فيكون نبراسا للأخلاق الفاضلة. (إذا أهملت الطباع ولم ترض بالتأديب والتقويم، نشأ كل إنسان على سوم طباعه .... إما الغضب وإما اللذة وإما الشره وإما غير ذلك من الطباع المذمومة).
2)- موقف جون جاك روسو
يؤكد على فطرية الضمير الأخلاقي فالإنسان سواء في تقييمه للأشياء أو الحكم على الآخرين، يكون منطلق أحكامه نابعا من مجمل الأحاسيس الفطرية التي يمتاز بها الفرد والدافعة عفويا إلى الخير، والتي يجسد بعضا منها في حب الذات، الخوف من الألم، الرغبة في العيش السعيد. غير أن هذا لا يعني أن الفرد يظل حبيس ذاته، بل يكون مضطرا إلى العيش ضمن جماعة تكفل له باقي حاجاته التي يعجز عن تحقيقها، وبهذا فالوعي الأخلاقي حسب روسو ذو مصدر غريزي فطري كامن داخل الإنسان. (يوجد في أعماق النفوس البشرية مبدأ فطري للعدالة والفضيلة).
3)- موقف سيغموند فرويد
إن الوعي الأخلاقي (الضمير الأخلاقي) هو في حقيقته ذو أصل نفسي لاشعوري؛ فالقواعد والمبادئ ترجع إلى اعتبارات نفسية منذ عهد الطفولة، وتحولت نتيجة بعض الميكانيزمات النفسية كالتعويض والإعلاء، وهكذا فكل القيم والضوابط الأخلاقية ناتجة عن تحول الدوافع الغريزية من شكلها البدائي الفطري إلى شكل يحبه المجتمع، ويرضى عنه الأنا الأعلى الذي يمارس رقابة أخلاقية على الأفعال، يتم من خلالها استبطانه ليتحول بذلك إلى ضمير أخلاقي. (الضمير الأخلاقي هو الوظيفة التي ننسبها إلى الأنا الأعلى، والمتمثلة في مراقبة أفعال الأنا والحكم عليها.).
4)- موقف إيريك فايل
ينظر «فايل» إلى الوعي من زاوية نظر عقلانية، بحيث يؤكد على ترابط العقل والأخلاق، فليس هناك أي فرد مجبر على التعامل بشكل أخلاقي، نظرا لكون المؤسسات السياسية خلقت لإجبار الأفراد على التصرف طبقا للقواعد الأخلاقية وليس للانشغال بالوعي الأخلاقي لدى الأفراد، ولهذا فإن أي موقف أو تصور عقلاني هو في جوهره فعل أخلاقي. (إن الإنسان متى انحاز إلى العقل، فإن المبدأ الأخلاقي يكون قد تم تأسيسه بالفعل.).
5)- موقف هاينز كينتشطاينر
يستبعد التصور الذي يعتبر أن الضمير الأخلاقي ثابت ومطلق، بالرغم من التغير التاريخي الذي عرفه وعي الإنسان وحياته الاجتماعية، مؤكدا بالمقابل على أن تاريخ الأخلاق يوضح بجلاء أن الوعي الأخلاقي الإنساني هو جزء من تاريخ منفتح ومتطور للوعي، انتهى بتحديثه انطلاقا من تحرير الإنسان من سلطة الرقابة الأخلاقية للمجتمع ورجال الدين، ليصبح الإنسان سيدا ومشرعا لنفسه ومسؤولا عن أفعاله، بعيدا عن منظومة الأخلاق التقليدية التي كانت تعتبر أن المجتمع هو الذي يحدد واجبات الفرد. (إن الوعي الأخلاقي هو جزء من بنية وعي تاريخي منفتح ومتطور.).
6)- موقف فرانتس برونتانو_
بطريقة إمبريقية، يعتبر أن القواعد الأخلاقية هي دروس يتم استخلاصها من التجربة، وهذا يعني أن الأخلاق من طبيعة نسبية تتلون بلون الأوضاع القائمة التي تجبر الفرد على الخضوع لما يحيط به باعتباره دائم التلقي وبشكل مستمر للأوامر الموجهة إليه، ومن ثم تتأسس علاقة اشتراك بين الفعل وفكرة الإلزام الصادرة عن الوعي الأخلاقي، (... من الطبيعي أن يطلب من الإنسان القيام ببعض الأفعال... وعندما يمتثل (للأوامر) يكون ذلك ناتجا عن إكراه، وليس ناتجا عن اعتبار الأمر الصادر شرعيا.).
تركيب عام لمحور الوعي الأخلاقي
الوعي مسألة فطرية متأصلة في الإنسان، ومميزة له عن الحيوان، وبلا شك فإن إلصاق صفة الأخلاقية به يجعل الإنسان قادرا على التمييز بين الخير والشر، بين الفضيلة والرذيلة، وإن الوعي الأخلاقي هذا يستلزم فاعلية حرة مريدة ومسؤولة تجاه الذات والمجتمع.
المحور الثالث: الواجب والمجتمع
تأطير إشكالي لمحور الواجب والمجتمع
إن تناول مفهوم الواجب لا يعني حصره في دائرته الذاتية الفردية، بل هو خروج نحو الدائرة الاجتماعية، لأن أحسن ضامن للواجبات والأخلاق عامة ليس فقط هو الضمير الفردي المبني على الاقتناع، بل هو أيضا المؤسسات الضامنة لمسؤولية وحسن أداء الواجب. ومن ثم فقد كانت السلطة الإلزامية للفعل الأخلاقي آتية من سلطة المجتمع على شكل إكراه خارجي. فما هي إذن حلقة الوصل التي تجمع بين الواجب والمجتمع؟ وهل يعتبر المجتمع فعلا مصدرا من مصادر الواجب سواء تعلق الأمر بما يبثه فينا من تكوين أخلاقي أو بما يضمه من صراع طبقي، أم أن الأمر يتجاوز المجتمع ليرتبط بالإنسانية جمعاء؟
الإشكالية المحورية
هل الأخلاق التي يحكمها مبدأ الواجب تقتصر على ضمير الفرد أم يؤطرها ضمير المجتمع؟
1)- موقف ماكس فيبر
يقيم فيبر تمييزا بين نوعين من الأخلاق: أخلاق الاقتناع أو الاعتقاد (أو الضمير) في مظاهرها المختلفة الدينية والإيديولوجية والعقدية عامة، وفيها يتخلى الفرد عن مسؤوليته ليضع المسؤولية على المحددات الخارجية: مثل مشيئة الله أو القدرة الإيديولوجية. وأخلاق المسؤولية وهي الأخلاق المرتبطة بالمحاسبة وبالمسؤولية الفردية في إطار مؤسسي، فمن يتصرف وفقها يرجع نتائج فعله إلى مسؤوليته الخاصة. هذا التمييز يصلح كأساس للتمييز بين أخلاق التقليد التي هي أخلاق الضمير الفردي وأخلاق الحداثة القائمة على تأطير الوعي الأخلاقي الفردي ومحاسبته قانونيا. (إن المسيحي يفعل واجبه، أما فيما يخص النتائج فهو يتوكل على الله... ونحن مسؤولون عن النتائج التي يمكن توقعها لأفعالنا.).
2)- موقف جون راولس
يرى أنه من الضروري التفكير في إقامة نوع من العدالة الاجتماعية بين الأجيال، وإذا لم يكن بالإمكان القيام بذلك في الماضي، فإن هذه المسالة واردة اليوم، فالأجيال الحالية يطرح عليها، وهي تتمتع بخيرات التقدم التكنولوجي، واجب التضامن مع الأجيال القادمة، وقد اعتمدت هذه الفكرة أساسا كجيل كامل من حقوق الإنسان يدعى حقوق الطبيعة، وذلك من حيث توفير شروط الحياة العادلة والمنصفة من خلال تأهيل المؤسسات وتوفير الخيرات والقدرات والحريات، (على الشركاء أن يتفقوا على مبدإ توفير يضمن لكل جيل أن يتلقى ما يستحقه من سابقيه، كما أن عليه أن يلبي بطريقة منصفة متطلبات لاحقيه).
3)- موقف إيميل دوركايم
يقدم منظورا سوسيولوجيا، يرى من خلاله أن المجتمع هو مصدر السلطة الأخلاقية التي تتحكم في سلوك الأفراد, فباعتباره هو مصدر القيم الدينية الفكرية، الأخلاقية... فهو من يحدد الخير والشر للأفراد، ويجعلنا ننصاع لبعض الأوامر أو نترك بعضها الآخر، وذلك انطلاقا من عملية التربية والتنشئة الاجتماعية، وبالتالي فدوركايم ينفي أن يكون الواجب صادرا عن العقل (كانط) أو عن الضمير الفردي (روسو)، وإنما يصدر عن سلطة المجتمع ( الضمير الجمعي)، إنه السلطة التي تجسد مطالب المجتمع وتتجسد في الضمير الأخلاقي لكل فرد، فضمير الفرد ليس إلا انعكاسا للضمير الجمعي (المجتمع ليس سلطة أخلاقية فحسب، بل كل الدلائل تؤكد أن المجتمع هو النموذج والمصدر لكل سلطة أخلاقية.).
4)- موقف هنري برغسون
يفرض المجتمع نوعا من النظام يبدو ظاهريا مؤلفا من إرادات وحصيلة لحريات الأشخاص، بينما هو نسق من الإكراهات والواجبات والإلزامات، وما على الإنسان إلا أن يخضع لها، لكن من هذه الواجبات ما يتجاوز المجتمع لينفتح على الإنسانية ككل، وبالتالي فواجبات الإنسان نحو غيره تتخطى الإطار المغلق الذي يحصرها في كونها مجرد واجبات نحو أفراد المجتمع الذي ينتمي إليه، أو أخلاق تهدف إلى تأمين بقاء الجماعة، إلى إطار مفتوح يدفع الإنسان نحو قيم الإخاء والتعامل مع الإنسان من حيث هو إنسان. (إن علينا واجبات نحو الإنسان من حيث هو إنسان، وليست مجرد واجبات اجتماعية).
5)- موقف فريدريك إنغلز
لا وجود لأخلاق خالدة ونهائية وثابتة تعلو على التاريخ، فحيثما يكون هناك تطور اقتصادي، ينبغي أن تكون هناك نظريات أخلاقية مرافقة لهذا التطور، ذلك أن ما يحكم الاخلاق هو التطور الذي تمر منه المجتمعات عبر الزمن، وهو التطور القائم بالأساس على الصراع الطبقي. بناء عليه فقد كانت الأخلاق دائما طبقية، أخلاقا للطبقة المهيمنة تارة، وأخلاقا للطبقة المضطهدة وثورتها ضد تلك الهيمنة تارة أخرى، وبذلك فالنظريات الأخلاقية ما هي إلا انعكاس جدلي للواقع الاجتماعي والاقتصادي. (وهكذا يظهر أن الأخلاق بدورها تخضع بدون شك لفكرة التقدم، مثلها في ذلك مثل سائر المعارف البشرية).
تركيب عام لمحور الواجب والمجتمع
ربما اختلفت التصورات السابقة حول مصدر الواجب، لكن ما يمكن استنتاجه هو أن هذا المصدر يقتضي خروجه من دائرة الضمير الأخلاقي إلى الوقوف واقعيا أمام ما يضعه المجتمع من إكراهات وواجبات، وهذا الوقوف لا يتأتى إلا بالتمتع بأقصى درجات الإرادة الحرة التي تمكن الفرد أيا كان، من اختيار الواجب الذي ينبغي تحقيقه أمام تأزم المواقف التي تواجهه في الحياة، وذلك في ظل تعدد الواجبات وتضاربها، إن لم نقل تصارعها.
خلاصة عامة لمفهوم الواجب
مادامت الحمولة الأخلاقية التي يحمل بها مفهوم الواجب دائما، والتي تبلوره في كونه أمرا أخلاقيا ملزما لكل الناس، فإن هذا الأمر الأخلاقي لا يكون كذلك إلا حينما يصدر احيانا عن سلطة متولدة من إحساس داخلي بالواجب تجاه الذات والآخرين (التزام)، وأحيانا أخرى حينما يصدر عن سلطة المجتمع كإكراه خارجي (إلزام). بيد أن هذا الأمر الأخلاقي يمثل في حين ثالثة قانونا عقليا وأخلاقيا، يتأتى للإنسان انطلاقا من الوعي الأخلاقي باعتباره مجالا للتجربة الفردية المتميزة بصراع الواجبات والمستوجبة لإرادة خيرة، حرة ومسؤولة تجاه الذات والمجتمع، تسمح للفرد في نهاية المطاف بالخروج من الضمير الأخلاقي إلى الانفتاح على القيم الكونية والواجبات الإنسانية، وذلك بغية إنهاء صدام الواجبات والمسؤوليات.