أحدث المقالات والدروس

اللغة خاصية إنسانية – الأولى بكالوريا شعبة الآداب والعلوم الإنسانية

author image

 


اللغة خاصية إنسانية الأولى بكالوريا شعبة الآداب والعلوم الإنسانية

مجزوءة الإنسان؟

مفهوم اللغة

المحور الأول اللغة خاصية إنسانية

التأطير الإشكالي للمحور

غالبا ما يعرف الإنسان في الفلسفة بكونه كائنا عاقلا، إلا أننا يمكن أن نؤكد أنه ليس فقط كائنا عاقلا، وإنما كائنا رامزا أيضا، والذي جعله كذلك هو تفرده وتميزه باللغة. غير أن اللغة تستعمل بمعنى واسع للدلالة على أنظمة التواصل، ومنها السنن والإشارات التي تعتمدها حتى بعض الحيوانات فيما بينها، وهنا يصعب التمييز بين الإنسان والحيوان بخصوص استعمال اللغة. هذا المعطى الأخير يدفعنا الى البحث عن مدى إمكانية اعتبار اللغة خاصية إنسانية، أيضا، إلى البحث فيما يميز اللغة الإنسانية عن اللغة الحيوانية. هكذا، يحق لنا أن نتساءل: هل تعتبر اللغة خاصية إنسانية أم لا؟ وإن كانت كذلك، فما الذي يميز اللغة الإنسانية؟ وما الذي يجعل الإنسان يختص باللغة؟

الموقف الأول: إرنست كاسيرر

يذهب منطوق النص إلى تأكيد أطروحة مضمونها أن الإنسان حيوان رامز، وهذا ما يميزه عما سواه. ولتأكيد أطروحته، اعتمدا النص آلية المقارنة، حيث قارن بين الإنسان والحيوان. فإذا كان الإنسان كائنا عضويا مثل باقي الكائنات العضوية أي الكائنات التي تتشكل من مجموعة من الأعضاء المترابطة فيما بينها والمتأثرة ببعضها البعض، فإن صاحب النص يؤكد أنه يتميز عنها من حيث تطويره لوظيفة أعضائه. والذي يجعل الإنسان يتميز عن الحيوان هو أن الحيوان يمتلك جهازا مؤثرا والذي يمكن تعريفه بكونه الجهاز الذي تصدر عنه مجموع السلوكات والأفعال التي تميز فردا عن آخر تبعا لاختلاف الأوضاع كما أنه يمتلك جهازا مؤثرا أي الجهاز الذي يستقبل تنبيهات ومؤثرات العالم الخارجي، لكن الإنسان، إضافة إلى امتلاكه للجهازين، فهو يمتلك جهازا اصطلح عليه النص بالجهاز الرمزي. وفي نفس السياق الحجاجي، سياق تمييز الإنسان عن الحيوان، ومقارنته به، يؤكد النص أن الإنسان يتميز عن الحيوان بكونه يعيش في عالم لامادي هو العالم الرمزي، على خلاف الحيوان الذي يعيش في عالم مادي خالص.

كما يؤكد النص على أن الإنسان مادام قد خرج من العالم المادي فإنه يعيش في عالم رمزي. وقدم ثلاثة أمثلة من مكونات العالم الرمزي للإنسان وهي: مثال اللغة، باعتبارها مجموعة من الرموز التي تؤدي وظيفة التواصل، ومثال الأسطورة، أي مجمل الحكايات التي تحكي عن نشأة الكون وعن الآلهة والإنسان باعتبارها هي الأخرى رموزا. وأخيرا مثال الفن، بحيث أن الفن تعبير رمزي عن أفكرانا ومشارعنا ورغباتنا لينتهي في الأخير، إلى أن حد (تعريف) الإنسان بكونه ذو رموز، بدلا من حده (تعريفه) بأنه كائن عاقل وناطق، وهذا نقد للذين اعتبروه مجرد كائن عاقل وناطق. فكون الإنسان كائن رامز هو ما يميزه عما سواه.

إذن فالنص، يرى أن ما يميز الإنسان، هو كونه كائنا رامزا، وأن اللغة من بين ما يتشكل منه العالم الرمزي للإنسان. لكن ما الذي يجعل الإنسان كائنا رامزا، ألا يمكن القول بأن التفكير هو أساس إنتاج الإنسان للعالم الرمزي وللكلام؟

الموقف الثاني: إرنست كاسيرر

يكتسي موقف النص قيمة من حيث إغنائه النقاش الفلسفي حول اللغة، وأيضا كشفه لما يميز الإنسان عما سواه، وتوضيحه ما للرمز من أهمية في تشكيل عالم لامادي، وكذلك من حيث نقده للتصورات التي حصرت تعريف الإنسان في خاصيتي العقل والنطق. وبدورنا يمكن أن نؤكد، أن الإنسان تمكن من خلال قدرته على الترميز من إنتاج وخلق وتشكيل عالم لا يستطيع غيره تشكيله، والأمثلة كثيرة على ذلك، فالعلوم في مجملها رموز، وأيضا الأساطير والموسيقى والفن واللغة

وكثيرة هي المواقف الفلسفية التي جعلت اللغة خاصية إنسانية، على غرار موقف النص ، نذكر على سبيل المثال لا الحصر موقف اللساني والسيميائي الفرنسي إميل بنفنيست(1902-1976)، فهو الآخر جعل اللغة خاصية إنسانية بناء على التمييز الذي أقامه بين الإشارة والرمز. حيث يتميز الإنسان بامتلاكه للرمز الذي يتجاوز ما هو حسي إلى ما هو ذهني ومجرد يرتبط بعملية الفهم والتأويل، فالإنسان أساسا كائن مبدع للرموز. على خلاف الحيوان الذي يظل حبيس الإشارة التي هي دائمة الارتباط بما هو مادي-حسي وفيزيائي. وحسب هذا التمييز يخلص “بنفنيست” لاعتبار اللغة كمعطى إنساني تشكل أرقى أشكال التعبير الرمزي.

لكن، وإضافة إلى ما قيل، فالفعل الكلامي لا يناسب إلا الإنسان وحده من حيث إنه يمتلك الفكر. فلا لغة بدون فكر. وهنا يمكن أن نؤكد انطلاقا من الفلسفة الديكارتية، أن الذات الإنسانية ليست مجرد آلة، بل هي نفس لها أفكار يعبر عنها بواسطة الكلمات والعلامات التي تعبر عن الماهية العاقلة للإنسان بعيدا عن كل انفعال قد يجعل هذا الفعل الكلامي فعلا حيوانيا مصطنعا مرتبطا بالإثارة والاستجابة. إن ديكارت يجعل اللغة خاصية إنسانية شأنه في ذلك شأن “إرنست كاسيرر”، فالإنسان عند كليهما هو الجدير بامتلاك المَلَكَة اللغوية، لكن علة هذا الامتلاك تختلف بينهما، ففي الوقت الذي يجعلها “كاسيرر” ترتبط بالجهاز الرمزي، فإن ديكارت يجعل هذا الجهاز والملكة اللغوية مرتبطة أساسا بالفكر.

لكن، ورغم القيمة الحجاجية للمواقف الفلسفية السابقة، إلا أن هناك من يجعل من اللغة خاصية مشتركة بين الإنسان والحيوان، نذكر على سبيل المثال لا الحصر عالم النفس الألماني كوهلر الذي للحيوان لغة خاصة كما هو الحال عند النحل والتي ينبغي فهمها في طابعها الحيواني لا تطبيق الخصائص الإنسانية للغة على اللغة الحيوانية.

خلاصة تركيبية للمحور

خاتمة القول، وانطلاقا مما سبق، أن الإنسان كائن رامز بامتياز، فهو على الخلاف من الموجودات الأخرى استطاع خلق عالم يتجاوز العالم المادي الصرف، وهذا العالم هو العالم الرمزي، الذي يتشكل بشكل أساسي من اللغة. ورغم أن هناك من يؤكد أن الحيوان هو الآخر له لغة، إلا أن اللغة الإنسانية أرقى وأكثر تطورا، إضافة من ذلك فمن خلالها يستطيع الإنسان التعبير والتواصل، بل وتحقيق تقدم لم تستطع الحيوانات تحقيقه. وبالتالي لن نستغرب من جعل اللغة مسكن الوجود من طرف الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، كما لن نستغرب من جعل المظهر الثقافي الأكثر بروزا من طرف الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي ستراوس. لكن هل هذا يعنى أن الإنسان لا يستطيع التفكير إلا من خلال اللغة والكلمات؟