درس معايير علمية النظريات العلمية / مفهوم النظرية والتجربة / مجزوءة المعرفة
المحور الثالث : معايير علمية النظريات العلمية
تأطير إشكالي للمحور :
إذا كان الطرح التجريبي يمثل نموذجا للعلمية باعتباره قائما على التجربة العلمية كأساس للنظرية العلمية ومنطلقا لبنائها فإن السجال مع ذلك بقي دائرا حول معايير علمية النظريات العلمية ومقاييس صلاحيتها. فعلى أي أساس تقوم علمية تلك النظريات العلمية؟ وما المقياس أو المعيار المعتمد لإثبات صدقها وصلاحيتها؟ وهل هو معيار واحد أم أنه يختلف باختلاف النظريات العلمية نفسها، واختلاف المراحل التي قطعتها عبر سيرورتها التاريخية؟
موقف كارل بوبر :
يرفض اعتبار التجربة أو الملاحظة معيارا لقياس صلاحية النظرية العلمية ويقدم مقياسا جديدا هو مبدأ قابلية النظرية للتفنيد أو التكذيب؛ ذلك أن النظرية العلمية التجريبية الأصيلة هي التي تستطيع أن تقدم الاحتمالات الممكنة التي تفند بها ذاتها وتبرز مجالات ضعفها، وتخضع بصفة قبلية فروضها للاختبار المستمر باعتبارها ليست حقيقة نهائية ومطلقة، حتى ولو كانت تدعى العلمية. (إن معيار القابلية للتفنيد أو القابلية للتكذيب، يمكن أن نطلق عليه معيار القابلية للاختبار... وبالتالي فإن النظرية التي تعرف مقدما أنه لا يمكن تبيان العيب فيها أو تفنيدها لهي نظرية غير قابلة للاختبار).
موقف بيير تويليي :
إن الذي يضفي على نظرية علمية ما جدتها العلمية وتماسكها المنطقي هو تلك الفروض الإضافية والاختبارات المتعددة، ذلك أن فضاء العلوم هو عالم موسوم بتعدد النظريات وتضاربها، ولإبراز إحداها ينبغي على العالم أن ينوع الاختبارات، ويكررها لإغناء التماسك المنطقي للنظرية، وإخراجها من عزلتها وربطها بنظريات أخرى. (إن اختبارات التماسك المنطقى للنظرية الواحدة أو ما بين نظريات عديدة، تبقي لها مكانة مركزية في التكوين الفعلي للعلم).
موقف بيير دوهيم :
إن عملية التجريب تساهم في عملية التحقق من صلاحية وصدق النظرية (النظرية الفيزيائية المعاصرة كمثال)، وذلك من خلال الكشف عن عدم وجود تناقض منطقي بين حدود نفس الفرضية من جهة، وبين مختلف فرضيات النظرية من جهة ثانية، لتكون النتائج المحصل عليها وأحكامها متناسبة مع القوانين التجريبية التي تروم النظرية، تمثيلها، ومن ثم تكون النظرية أصابت هدفها وأثبتت صلاحيتها، وإلا فإنها إذا كانت غير صالحة وجب تعديلها أو رفضها. (ان الاتفاق مع التجربة هو الذي يشكل - بالنسبة للنظرية الفيزيائية- المعيار الوحيد للحقيقة).
موقف ألبير إنشتاين :
يرى بأن التجربة الحاضرة بقوة في النظرية الكلاسيكية، التي تشكل معيار المنفعة الوحيد للفيزياء النظرية، لم تعد تمثل منبع النظرية رغم أنها ترشدنا إلى اختيار المفاهيم الرياضية التي تستعملها، ولذلك ينبغي الاعتراف بإبداعية العقل العلمي الرياضي القادر على فهم الواقع بطريقة جديدة انطلاقا من الاستنباط المنطقي السليم الذي يشكل أساس النظرية المعاصرة، ليبقى معيار صلاحية النظرية هو في مدى انسجامها المنطقى الداخلي، (التجربة ... وإن بقيت حقا معيار المنفعة الوحيد، بالنسبة الفيزياء، على الرغم من الطابع الرياضي لبنائها، فإن المبدا الخلاق الحقيقي يوجد في العقل الرياضي).
موقف برتراند راسل :
يعتبر «راسل» أن المعرفة التي يحملها الإنسان على وجهين: معرفة بالحقائق الخاصة، ومعرفة بالحقائق العلمية؛ فالأولى هي وقائع وحقائق تتضمن استنتاجات يكتنفها الشك من كل جانب، وتتباين درجة صحتها وصلاحيتها، في حين تتخذ الحقائق العلمية صورة استنتاجات صحيحة ومتحققة غير أن هذه الحقائق العلمية قد تقصر عن استيفاء شرط العلمية، حينما يطالها الشك أوصعوبة الاستنتاج أو التجريد. (مما يميز التقدم العلمي القلة المتزايدة في عدد ما يتبين أنه حقيقة كائنة، والكثرة المتزايدة فيما يتبين أنه استنتاج).
موقف الحسن بن الهيثم :
يؤكد على نزعة الناس الطبيعية والفطرية إلى تصديق أقوال العلماء ونظرياتهم، وإلى حسن الظن بهم، كما لو أن أفكارهم وأنظارهم هي حقائق راسخة لا يأتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها، في الوقت الذي ينبغي على الإنسان -على حد ما جاء في رد ابن الهيثم على بطليموس القلوذي - أن يتسلح برؤية نقدية تشخص المعرفة العلمية، وتكشف وجاهتها وصحتها أو أغلاطها ونقصانها إن وجدت. (على الناظر في كتب العلوم، إذا كان غرضه معرفة الحقائق، أن يجعل نفسه خصما لكل ما ينظر فيه).
تركيب عام للمحور:
إن وجاهة النظريات وأصالتها العلمية قائمة على إخضاع فروضها لاختبارات متكررة، قصد ابراز تماسكها المنطقي وجعلها تنفتح على فروض نظرية جديدة مع قابليتها للنقد والمساءلة أو إعادة البناء عبر مبدأ التكذيب أو التفنيد، وذلك بعد مصادقة التجربة عليها واتفاقها معها، فمن الأفضل أن تكون معرضة للخطأ ومحاولة التصحيح عوض أن تبقى في يقين دائم، إذ لا علم بدون أخطاء.
خلاصة عامة لمفهوم النظرية والتجربة
إن التأمل في تاريخ اشتغال مفهومي النظرية والتجربة وحضورهما في العلم التجريبي رغم ما يسم علاقاتهما من توتر وصراع، يكشف - لنا - بالملموس عن التفاعل والتداخل الكبيرين بينهما في تأسيس وبناء النظرية العلمية التجريبية؛ إذ ساهم الحوار الجدلي الدائر بينهما في المجال العلمي في إعادة صياغة مفاهيم فلسفية وعلمية أساسية من مثل: العقل، الواقع، الذات، الموضوع، التجربة، الخطأ، الكذب، واليقين...كما أكد أيضا على أن أي انغلاق للنظرية على ذاتها يمثل فناءها، وأن أي انغلاق للعقل على ذاته هو بمثابة عزلته ونهايته؛ بحيث لا وجود لنظرية علمية عقلية خالصة متعالية عن الواقع، ولا وجود لتجربة علمية مستقلة عن العقل.