ملخص وجدول مفهوم النظرية والتجربة (محاور، إشكالات، فلاسفة، ومواقف)
ملخص يتضمن تأطيرا إشكاليا ومواقف وتركيبا، مع جدول خاص بمفهوم النظرية والتجربة ضمن مجزوءة المعرفة يضم المحاور الثلاثة للمفهوم، وأطروحات ومواقف الفلاسفة المتداولة في الكتب الثلاثة المقررة للثانية باكالوريا.
وجديد هذا المنتوج هو عرضه لأغلبية المواقف الفلسفية المتضمنة في الكتب الدراسية الثلاثة المقررة في المنهاج المغربي، وهي (في رحاب الفلسفة، مباهج الفلسفة، منار الفلسفة)
مجزوءة المعرفة
تقديم عام للمجزوءة
تعتبر المعرفة فعالية إنسانية موسومة بالتميز والتعدد والتنوع، يسعى الإنسان من خلالها إلى فهم العالم كمعطى طبيعي تحكمه القوانين، كما يسعى أيضا إلى تحليل واستيعاب واقعه المشروط بالذات والموضوع وأداة المعرفة. وهكذا تفرد هذا الإنسان بدراسة الظواهر الطبيعية والإنسانية معا، محاولة منه للاستفادة من هذه المعرفة وتسخيرها لصالحه. ومن ثم بدأ المجتمع العلمي بوضع قواعد البحث العلمي، كما لجأ إلى التجربة وصياغة النظرية والملاحظة والاختبار والمقارنة والقياس...التي تجعل الفرضيات العلمية قواعد وقوانين تقدم تفسيرات وتنبؤات تبين انتصار العقل.
امتدادا لمسألة العلمية، في مفهومي النظرية والتجربة، ستظهر العلوم الإنسانية كتجسيد لرغبة الإنسان في الاشتغال بتفسير ذاته علميا - على غرار ما حدث في مختلف العلوم الدقيقة - وكذا محاولة دراسة الظواهر الإنسانية دراسة موضوعية واستخلاص نتائج وقوانين تحدد مساراتها وانتظاماتها. غير أن هذا الفهم الموضوعي للظاهرة الإنسانية عبر استلهام النموذج التجريبي، طرح عدة استفهامات متعلقة بحدود نموذجية العلوم التجريبية وعوائق تطبيقها على الظاهرة الإنسانية.
وفي سياق هذا الانشغال الإنساني بإنتاج معرفة حول الطبيعة والذات، فإن الحقيقة التي وصلت إليها هذه المعرفة، ظلت على الدوام إشكالا مؤرقا للإنسان، لا من حيث علاقتها بنقائضها (الخطأ والوهم). ولا من حيث معاييرها الذاتية أو الموضوعية، ولا من حيث قيمتها النظرية والعلمية. مما يجعل كل نتيجة علمية متوصل إليها غير مطلقة وغير نهائية مما يطرح رهان التفكير في مدى صلابة ونسبية الحقيقة العلمية وفي مدى قابليتها للدحض، وفي شروطها وحدودها وسياقاتها الاجتماعية لنزع كل إطلاقية ووثوقية عنها .
وهكذا فمدارسة المعرفة كإنتاج إنساني متميز، يجعلنا ننفتح على الإشكالات التالية : كيف تتأسس المعرفة الإنسانية؟ وما دور كل من النظرية والتجربة في بناءها؟ وما الذي يميزها - إن كانت معرفة للخطاب العلمي- عن خطاب العلوم الإنسانية ؟ ثم، إذا كانت كل معرفة تسعى إلى بلوغ الحقيقة، فما طبيعتها ودلالاتها؟
المفهوم الأول: النظرية والتجربة
تقديم المفهوم
إن المعرفة العلمية ليست تراكما لمعارف مبعثرة أو أفكارا متناثرة، ولا تركيبا لاستنتاجات وملاحظات غير منتظمة. فقد تمكن العلماء بفضل مجهوداتهم الفكرية الكبيرة والمستمرة من بناء معرفة منظمة ومتميزة مؤسسة على بناء منطقی فرضي استنباطي اسمه النظرية، كما هي مؤسسة على التجريب والتجربة العلمية. ورغم هذا التميز الذي يسم المعارف والنظريات العلمية، فإنها غير ثابتة وخالدة، بل متغيرة ومتجددة، مما يستدعي إعادة قراءتها وانتقادها قصد تصنيفها، ومن ثم فقد أصبحنا نسمع بعلم كلاسيكي قائم على أسس عقلانية كلاسيكية وعلم معاصر قائم على أسس عقلانية معاصرة، كما أصبحنا نتحدث عن المعايير والضوابط التي يمكن أن نحكم من خلالها على مدى صدق وصلاحية النظريات العلمية. فما دلالة التمايز العلائقي بين التجربة والتجريب؟ وهل القول بأهمية التجريب في المعرفة العلمية هو إقصاء لدور العقل؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، ما هي خصائص العقلانية العلمية وحدودها؟ ثم ما هي معايير علمية النظريات العلمية؟ وما مقاييس صلاحيتها؟
المحور الأول : التجربة والتجريب
تأطير إشكالي للمحور :
تأخذ التجربة دلالة خاصة في المجال العلمي من حيث هي مجموع الخطوات النظرية والعملية التي يتأسس عليها التجريب العلمي والتي يقوم بها العالم قصدا للحصول على أجوبة للأسئلة التي يطرحها . فإذن ما الذي يميز التجربة عن التجريب؟ وما هي الخطوات التي يقوم عليها المنهج التجريبي؟ ثم هل ينبغي الالتزام بها في ارتباطها بالواقع أم لابد من استحضار عنصر الافتراض والخيال في عملية التجريب؟
موقف كلود برنار : لا بد للعالم التجريبي أن يكون ملما بمجموعة من الشروط والمبادئ المنهجية والنظرية لبلوغ الحقيقة العلمية، فالتجربة عبارة عن خطوات منهجية مثلى قائمة على الملاحظة، الفرضية والتجريب. إذا اشتغل العالم بمقتضاها توصل إلى معرفة القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية. «إن العالم التجريبي هو الذي يستطيع بفضل تفسير محتمل ومسبق للظواهر الملاحظة أن يؤسس التجربة بحيث تسمح بالتحقق من الفرضية».
موقف رونی طوم : إن التجريب العلمي ليس هو المقوم الوحيد لتفسير الظواهر وتعليل أسبابها، إذ لا بد من استحضار عنصر الخيال وإدماجه في عملية التجريب، بمعنى إكمال الواقعي " بالخيالي"، لأن هذه القفزة نحو الخيال هي أساسا عملية أو تجربة ذهنية تمنح للواقع غنى. « إن التجريب وحده عاجز عن اكتشاف سبب أو أسباب ظاهرة ما، ففي جميع الأحوال ينبغي إكمال الواقعي بالخيالي».
موقف ألكسندر كويري : يُبرز الفرق الموجود بين مفهومي التجربة والتجريب، معتبرا التجربة هي تجربة خام وملاحظة عامية لم تلعب أي دور في نشأة العلم، بل كانت عائقا أمامه لما يغيب عنها من علمية وموضوعية، في الوقت الذي يكون فيه التجريب هو المساءلة المنهجية للطبيعة، فيفترض افتراضا مسبقا مجموعة من الشروط المنهجية التي تجعله أكثر تنظيما من الناحية العلمية. « فالتجرية بمعنى التجربة الخام لم تلعب أي دور في نشأة العلم الكلاسيكي، اللهم إلا دور العائق...أما التجريب فهو المساءلة المنهجية للطبيعة».
تركيب عام للمحور: يقوم الحلم التجريبي على خطوات منهجية ونظرية تجمع بين الملاحظة والفرضية والتجربة، لكن التجريب ليس ذاك التحقق الواقعي الذي يشكل المقوم الوحيد في تفسير الظواهر، بل لا بد من اللجوء إلى التجربة الذهنية الخيالية الافتراضية لما لها من دور في إثراء الواقع وإغنائه.
المحور الثاني : العقلانية العلمية
تأطير إشكالي للمحور :
إن تاريخ العقل العلمي البشري يكشف عن نمط كلاسيكي لهذا العقل، قائم على مبادئ ثابتة. ونمط عقلى آخر معاصر، جعل العقل يشتغل بكل فعالية ونشاط ويتطور بتطور عالم التجربة ذاته. فما خصائص هذه العقلانية العلمية؟ وهل هي عقلانية قائمة على معطيات تجريبية محضة كما تزعم النزعات الاختبارية والتجريبية أم يتعين اعتبارها نسقا عقليا رياضيا كما ترى المذاهب الاصطلاحية والعقلانية؟ أم يمكن القول بأنها تقوم على يقين مزدوج يمثله ذلك الحوار الجدلي بين العقل والواقع؟
موقف ألبير إنشتاين : إن أهم ما يميز العقلانية العلمية هو كونها عقلانية مبدعة ومبتكرة تستقي أدواتها من العقل الرياضي، فالمفاهيم والمبادئ التي يتكون منها النسق النظري لأي علم (الفيزياء مثلا) هي إبداعات حرة للعقل الرياضي، بل وتمثل أساس النظرية العلمية، فتبقى التجربة بذلك تابعة للعقل، والعقل هو أساس العقلانية العلمية. (إن المبدأ الخلاق في العلم لا يوجد في التجربة، بل في العقل الرياضي).
موقف هانز رايشنباخ : إن الأبنية العقلية الرياضية التي تتعالى عن الملاحظة والتجريب لا تؤسس معرفة علمية، بل هي أقرب ما تكون إلى التصوف منها إلى العلم، والقاسم المشترك بين هذه النزعة الصوفية الرياضية، وبين الأشكال غير الرياضية للنزعة الصوفية، هو انطلاقها من رؤية فوق حسية، ولكن ما يميزها عن تلك الأشكال الأخرى هو استخدام تلك الرؤية في إثبات حقيقة معرفة علمية متوصل إليها اعتمادا على منهج معقول يقتضي العقل والملاحظة معا. (المعرفة العلمية يتم التوصل إليها باستخدام مناهج معقولة لأنها تقتضي استخدام العقل مطبقا على مادة الملاحظة).
موقف روبير بلانشي : ليست العقلانية العلمية نزعة اختيارية تعتبر العقل بمثابة مرآة تنعكس فيها معطيات التجرية، كما ليست عقلانية قبلية تقوم على منظومة من القواعد الثابتة . إنها عقلانية تجريبية وبعدية تلغي ما قبلها، بحيث تعتبر بأن العقل العلمي، في تكيفه مع الوقائع التجريبية التي يعرضها ، يراجع مبادئه وقواعده باستمرار، لينزع عنها ما قد يلتصق بها من ثبات وإطلاقية، وليبقى التفاعل بين العقل والتجرية هو أساس العقلانية العلمية. (التحولات التي تمس عدتنا الفكرية تأخذ صورة مراجعة تلغي، في سياق ما يعرض لنا من تجارب، جزءا متزايدا من القواعد التي كانت تعتبر ذات ضرورة قبلية).
موقف غاستون باشلار : إن العقلانية العلمية المعاصرة هي عقلانية فلسفية مطبقة، تقوم على ضرورة امتلاك يقين مزدوج، يجعل الواقع خاضعا لما هو عقلي، مثلما يجعل ما هو عقلي مستخلصا من صميم ما هو تجريبي واقعي؛ إذ لا يمكن الحديث عن عقلانية فارغة من أي محتوى تجريبي، كما لا يمكن الحديث عن أي اختبارية (تجريبية) غير مسترشدة بما هو عقلي، وإلا ستكون اختبارية عمياء، وبناء عليه، فتأسيس العلوم أو العقلانية العلمية مشروط بذلك الحوار الجدلي بين العقل (النظرية) والواقع (التجربة). (إن هذا اليقين المزدوج لا يمكن أن يتحقق إلا في إطار فلسفة لها نشاطان يمارسان عبر حوار دقيق ووثيق بين العقل والواقع).
موقف جون بيير فرنان : إن اعتبار العقل ظاهرة بشرية، يجعله عنصرا نسبيا خاضعا لشروط تاريخية معينة؛ إذ هكذا سينتقل العقل من اللاهوتية إلى أشكال من الفكر العقلاني المتغير والمتنوع بين الاستدلال والبرهان والتفنيد وتقصي الوقائع والتمحيص التجريبي، وسيصير محايثا للتاريخ البشري، بحيث سيهيمن على تقدم العلوم، فيحدد انطلاقا من مبادئ عقلية وضعت مسبقا وبصفة نهائية، مسار الحركة العلمية. وعليه فان النظرة المتحولة والنسبية للعقل هي التي تميز النهج العقلاني المعاصر على عكس العقلانية الكلاسيكية التي تتشبت بتصور ثابت ومطلق عن العقل، (إن من يطبق على العقل سلسلة النسبية التي تميز كل نهج عقلاني، لا بد وأن يرى كيف تمكن بالفعل من إدراك الواقع والإمساك به).
موقف أولمو : يميز أسس العقلانية الكلاسيكية من أسس العقلانية المعاصرة، معتبرا أن (ديكارت) كممثل للعقلانية المطلقة جعل العقل الإنساني المجسد في الخلق الرياضي، صورة من العقل الإلهي؛ فتكون بذلك قوانين الطبيعة مماثلة لقوانين الفكر، لأن كليهما إسقاط للعقل المطلق نفسه، في حين أن العقلانية النقدية «لكانت»، ترى بأن التجربة هي التي تفرض بالضرورة على الطبيعة قوانين العقل، لأنه لا يدرك من العالم إلا ما هو مطابق لقوانين العقل. «إن بين عقلانيتي ديكارت وكانط شيء مشترك هو الاعتقاد في وجود مضمون للعقل، وهي البداهات أو الطبائع البسيطة عند ديكارت، مقولات أشكال قبلية للحدس لدى كانط ، فهنالك لدى كل منهما، إذن، معطى قبلي »
موقف محمد أركون : يرى بأن العقل والعقلانية عرفا تطورا كبيرا في أوربا، وبالخصوص مع ديكارت، و اسبينوزا ، اللذين عملا على نقل العقل البشري من حقبة العقل اللاهوتي القروسطي إلى مرحلة العقل الحديث الكلاسيكي المرتكز على اليقينيات المطلقة والذي سينتقل بدوره إلى مرحلة العقل النسبي أو النقدي المعاصر الذي يصحح ذاته باستمرار ويبلور معرفته ويؤمن بتقدمه، حتى لا يسقط في هاوية العلمية والضياع. (أصبحنا الآن أمام عقل جديد، أقصد أمام عقلانية جديدة أمنت للغرب تفوقه على جميع شعوب الأرض).
تركيب عام للمحور :
اختلفت الرؤى وتباينت التصورات حول طبيعة العقلانية العلمية في ظل تغليب منطق العقل ( النظرية) على التجربة أو تغليب الواقع (التجربة) على العقل واعتباره أساس العقلانية العلمية لكن محدودية هذا الواقع وإعادة التحقق من نظريات العقل، يفرضان على كل عقلانية علمية أن تقوم على يقين مزدوج أساسه ذلك الحوار الجدلي بين ما هو عقلي وما هو واقعي، فلا وجود لنظرية علمية خالصة، كما لا توجد تجربة علمية مستقلة عن العقل.
المحور الثالث : معايير علمية النظريات العلمية
تأطير إشكالي للمحور :
إذا كان الطرح التجريبي يمثل نموذجا للعلمية باعتباره قائما على التجربة العلمية كأساس للنظرية العلمية ومنطلقا لبنائها فإن السجال مع ذلك بقي دائرا حول معايير علمية النظريات العلمية ومقاييس صلاحيتها. فعلى أي أساس تقوم علمية تلك النظريات العلمية؟ وما المقياس أو المعيار المعتمد لإثبات صدقها وصلاحيتها؟ وهل هو معيار واحد أم أنه يختلف باختلاف النظريات العلمية نفسها، واختلاف المراحل التي قطعتها عبر سيرورتها التاريخية؟
موقف كارل بوبر : يرفض اعتبار التجربة أو الملاحظة معيارا لقياس صلاحية النظرية العلمية ويقدم مقياسا جديدا هو مبدأ قابلية النظرية للتفنيد أو التكذيب؛ ذلك أن النظرية العلمية التجريبية الأصيلة هي التي تستطيع أن تقدم الاحتمالات الممكنة التي تفند بها ذاتها وتبرز مجالات ضعفها، وتخضع بصفة قبلية فروضها للاختبار المستمر باعتبارها ليست حقيقة نهائية ومطلقة، حتى ولو كانت تدعى العلمية. (إن معيار القابلية للتفنيد أو القابلية للتكذيب، يمكن أن نطلق عليه معيار القابلية للاختبار... وبالتالي فإن النظرية التي تعرف مقدما أنه لا يمكن تبيان العيب فيها أو تفنيدها لهي نظرية غير قابلة للاختبار).
موقف بيير تويليي : إن الذي يضفي على نظرية علمية ما جدتها العلمية وتماسكها المنطقي هو تلك الفروض الإضافية والاختبارات المتعددة، ذلك أن فضاء العلوم هو عالم موسوم بتعدد النظريات وتضاربها، ولإبراز إحداها ينبغي على العالم أن ينوع الاختبارات، ويكررها لإغناء التماسك المنطقي للنظرية، وإخراجها من عزلتها وربطها بنظريات أخرى. (إن اختبارات التماسك المنطقى للنظرية الواحدة أو ما بين نظريات عديدة، تبقي لها مكانة مركزية في التكوين الفعلي للعلم).
موقف بيير دوهيم : إن عملية التجريب تساهم في عملية التحقق من صلاحية وصدق النظرية (النظرية الفيزيائية المعاصرة كمثال)، وذلك من خلال الكشف عن عدم وجود تناقض منطقي بين حدود نفس الفرضية من جهة، وبين مختلف فرضيات النظرية من جهة ثانية، لتكون النتائج المحصل عليها وأحكامها متناسبة مع القوانين التجريبية التي تروم النظرية، تمثيلها، ومن ثم تكون النظرية أصابت هدفها وأثبتت صلاحيتها، وإلا فإنها إذا كانت غير صالحة وجب تعديلها أو رفضها. (ان الاتفاق مع التجربة هو الذي يشكل - بالنسبة للنظرية الفيزيائية- المعيار الوحيد للحقيقة).
موقف ألبير إنشتاين : يرى بأن التجربة الحاضرة بقوة في النظرية الكلاسيكية، التي تشكل معيار المنفعة الوحيد للفيزياء النظرية، لم تعد تمثل منبع النظرية رغم أنها ترشدنا إلى اختيار المفاهيم الرياضية التي تستعملها، ولذلك ينبغي الاعتراف بإبداعية العقل العلمي الرياضي القادر على فهم الواقع بطريقة جديدة انطلاقا من الاستنباط المنطقي السليم الذي يشكل أساس النظرية المعاصرة، ليبقى معيار صلاحية النظرية هو في مدى انسجامها المنطقى الداخلي، ( التجربة ... وإن بقيت حقا معيار المنفعة الوحيد، بالنسبة الفيزياء، على الرغم من الطابع الرياضي لبنائها، فإن المبدا الخلاق الحقيقي يوجد في العقل الرياضي).
موقف برتراند راسل : يعتبر «راسل» أن المعرفة التي يحملها الإنسان على وجهين: معرفة بالحقائق الخاصة، ومعرفة بالحقائق العلمية؛ فالأولى هي وقائع وحقائق تتضمن استنتاجات يكتنفها الشك من كل جانب، وتتباين درجة صحتها وصلاحيتها، في حين تتخذ الحقائق العلمية صورة استنتاجات صحيحة ومتحققة غير أن هذه الحقائق العلمية قد تقصر عن استيفاء شرط العلمية، حينما يطالها الشك أوصعوبة الاستنتاج أو التجريد. (مما يميز التقدم العلمي القلة المتزايدة في عدد ما يتبين أنه حقيقة كائنة، والكثرة المتزايدة فيما يتبين أنه استنتاج).
موقف الحسن بن الهيثم : يؤكد على نزعة الناس الطبيعية والفطرية إلى تصديق أقوال العلماء ونظرياتهم، وإلى حسن الظن بهم، كما لو أن أفكارهم وأنظارهم هي حقائق راسخة لا يأتيها الباطل لا من بين يديها ولا من خلفها، في الوقت الذي ينبغي على الإنسان -على حد ما جاء في رد ابن الهيثم على بطليموس القلوذي - أن يتسلح برؤية نقدية تشخص المعرفة العلمية، وتكشف وجاهتها وصحتها أو أغلاطها ونقصانها إن وجدت. (على الناظر في كتب العلوم، إذا كان غرضه معرفة الحقائق، أن يجعل نفسه خصما لكل ما ينظر فيه).
تركيب عام للمحور:
إن وجاهة النظريات وأصالتها العلمية قائمة على إخضاع فروضها لاختبارات متكررة، قصد ابراز تماسكها المنطقي وجعلها تنفتح على فروض نظرية جديدة مع قابليتها للنقد والمساءلة أو إعادة البناء عبر مبدأ التكذيب أو التفنيد، وذلك بعد مصادقة التجربة عليها واتفاقها معها، فمن الأفضل أن تكون معرضة للخطأ ومحاولة التصحيح عوض أن تبقى في يقين دائم، إذ لا علم بدون أخطاء.
خلاصة عامة لمفهوم النظرية والتجربة
إن التأمل في تاريخ اشتغال مفهومي النظرية والتجربة وحضورهما في العلم التجريبي رغم ما يسم علاقاتهما من توتر وصراع، يكشف - لنا - بالملموس عن التفاعل والتداخل الكبيرين بينهما في تأسيس وبناء النظرية العلمية التجريبية؛ إذ ساهم الحوار الجدلي الدائر بينهما في المجال العلمي في إعادة صياغة مفاهيم فلسفية وعلمية أساسية من مثل: العقل، الواقع، الذات، الموضوع، التجربة، الخطأ، الكذب، واليقين...كما أكد أيضا على أن أي انغلاق للنظرية على ذاتها يمثل فناءها، وأن أي انغلاق للعقل على ذاته هو بمثابة عزلته ونهايته؛ بحيث لا وجود لنظرية علمية عقلية خالصة متعالية عن الواقع، ولا وجود لتجربة علمية مستقلة عن العقل.
رابط تحميل الجدولPDF: