ملخص محاور ومواقف مفهوم الوعي (الأولى باك / شعبة الآداب والعلوم الإنسانية)
مفهوم الوعي
تمهيد
مادة
الفلسفة من المواد الأساسية والمهمة في حياة التلميذ وآفاقه المعرفية والتربوية
والتواصلية، وهي إلى جانب باقي المواد الأخرى تساهم في تطوير رصيده المعرفي
والثقافي، يرتقي من خلالها التلميذ عبر مسالك الحياة الدراسية والعملية
والاجتماعية...
أما ما
تتميز به الفلسفة عن غيرها من المواد، فهو اهتمامها بإكساب التلميذ مهارات وتقنيات
منهجية تساعد على حسن التواصل مع الآخرين في فضاءات مختلفة ومتعددة مثل فضاء
الأسرة وفضاء المجتمع، المؤسسة التعليمية، العمل،... كما تكسبنا الفلسفة منهجية
خاصة لممارسة التفكير النقدي، وطريقة إنتاج الأفكار، واكتساب مجموعة من المهارات
الحجاجية والاستدلالية، واللغوية والتربوية والنفسية.
كل هذا
سنعمل على تحقيقه هذه السنة من خلال المكونين الأساسيين تحليل النصوص والإنشاء
الفلسفي، هذان المكونان هما اللذان سيشكلان أساس الدرس الفلسفي في الأولى
باكالوريا.
تحليل النصوص أو منهجية الفهم، يكون
الهدف منه هو اكتساب مهارة التحليل النقدي، واكتساب منهجية لتلقي الأفكار وتصنيفها
وتقييمها وفحصها فحصا نقديا، وفي هذه العملية نستطيع التعرف على طرق ومناهج مختلفة
في إنتاج الأفكار عند مجموعة من الفلاسفة والمفكرين، وهذا ما يمكن ان يزودنا
بإمكانات وطرق متعددة في انجاز أفكارنا وإيصالها للآخرين.
الإنشاء الفلسفي أو منهجية الإفهام، نتدرب
من خلاله على حسن إيصال أفكارنا للآخرين وإقناعهم بها والدفاع عنها وحمايتها من
سوء الفهم، ومنهجية الإفهام لا تأتي من فراغ بل تكتسب عن طريق التدرب والممارسة
الفعلية للإنشاء الفلسفي سواء داخل القسم أو خارجه من بحوث وتمارين وعروض.
ماذا نقصد بالمفهوم...؟ وما دلالته
الفلسفية...؟
المفهوم
يكثر استعماله في الفلسفة، وهو يختلف عن الكلمة والمصطلح، فإذا كانت الكلمة يمكن
تعريفها تعريفا لغويا محددا ودقيقا، والمصطلح أيضا يمكن تعريفه وفق ما اتفق عليه
بين أهل التخصص، فإن المفهوم لا يمكن تعريفه تعريفا جامعا مانعا وذلك لأنه
يتميز بالتجريد والشمولية والغموض والنسبية والتعددية، وهو ذو حمولة غنية ثقافيا
وفكريا ومعرفيا، ولهذا فمحاولة فهمه تستدعي استحضار كل المقاربات السابقة وكذا ضبط
العلاقات الحاصلة بين المفهوم وبين غيره من المفاهيم المرتبطة به.
وباختصار يمكن ان نعرف المفهوم على انه نسق من الأفكار والمعطيات والآراء حول قضية أو ظاهرة معينة فكرية أو كونية أو معرفية نستحضرها بهدف فهمها وإعطاء تصور واضح حولها.
المحور الأول:
مشكلة الوعي:
1)
موقف راسل:
ربط برتراند راسل الوعي بالمدركات الحسية أو الخبرات
الحسية حيث أكد على ضرورة عدم فصله (أي الوعي) عن مثيرات العالم الخارجي فهو عبارة
عن ردود أفعال اتجاه وسطه. هذا يعني أن الوعي طاقة تميز الإنسان عن الجمادات. ومن
ثم فإن راسل أكد على تلازم الوعي مع حالة اليقظة، وليس مع حالة النوم أي أنه غير مستمر في الزمن.
وأكد كذلك على ضرورة الانتباه إلى عامل اللغة لأنها، في نظره، جهاز ونظام غير منسق.
وهنا نجده يميز بين نوعين من اللغة: لغة
مرشدة تمكن من فهم طبيعة العالم الذي نتحدث عنه، ولغة مضللة وخداعة للتفكير. ومن ثمة فإن كثيرا من
الفلاسفة الذين اعتمدوا عليها ضلوا وأضلوا.
إن الوعي بالذات عند راسل يعني أمرين هما: دخول هذا الإنسان في علاقة مع العالم الخارجي،
واكتشافه لذاته ولأفكاره ولعواطفه. أي أن هناك امتحانا للإنسان بإدراك وجوده
الذاتي. وهنا يكمن مفهوم الوعي عند راسل ويتجلى. فعندما ندرك معطيات العالم
الخارجي فإننا نكون، حسب راسل، فقط في مجال ردود الفعل اتجاه العالم، ونشترك في
هذه الخاصية مع الجمادات. هذا يدل على أن الوعي لا يتحدد عند مستوى إدراك العالم
الخارجي بل هو فقط رد فعل على النحو الذي تؤذيه الحجارة والجمادات عموما.
يرى راسل أنه يستحيل إدراك المادة إدراكا مباشرا، وأن لها وجودا واقعيا ملموسا. ويؤكد راسل على
المعرفة القائمة على التجربة وعلى الحواس وعلى إدراك الكليات إدراكا فوريا
ومباشرا. وهو في الوقت نفسه يؤكد على التمييز بين الذات الواعية والموضوع. وعلى
سبيل المثال لا الحصر إننا لا ندرك مدينة الرباط ومراكش إدراكا جزئيا، بل إننا
ندركهما في إطار العلاقة الخارجية القائمة بينهما، وهذه العلاقة ليست من طبيعة
نفسية صادرة عن الذات العارفة، ولكنها مستقلة عنها، تنشأ بطبيعتها في معزل عن فعل
المعرفة في حد ذاتها.
مما سبق يتبين لنا أن الجزء الأساسي من مفهوم الوعي
مرتبط بمدى إدراكنا للوجود الذاتي. وتحصل هذه العملية بواسطة الاستبطان، مما يدل
على أن الاستبطان منهج يسمح ويمكن من ولوج العالم الداخلي في الإنسان وفهم علاقة
الذات الواعية بمحيطها الخارجي، أي أنه في هذه الحالة لا يتعلق الأمر بشيء من بين
أشياء العالم والجمادات بل بذات لها طبيعتها الخاصة بها. ومن ثمة فالشرط الأساسي
لقيام الوعي وكل معرفة حسب راسل هو إدراك الوجود الذاتي للإنسان عن طريق الاستبطان،
لأن الوعي ميزة خاصة بالإنسان، وليست فقط مجرد رد فعل اتجاه العالم الخارجي أو أنه
فقط إدراك حسي له.
2) موقف برجسون
إذا كان راسل يجمع بين لفظ الوعي
وحالة اليقظة متجاهلا حالة النوم، فإن برجسون يتجاوز هذا الطرح ليؤكد على سيرورة
الوعي في الزمن، ليشير به إلى جميع
العمليات السيكولوجية الشعورية. فالوعي أو الفكر عند برجسون ذو طبيعة مجردة أي أنه
غير ملموس ويرفض أن يقترن بأي طابع نسبي أو ذاتي، حيث أنه دائم الحضور في حياة كل
إنسان، لا يقبل القسمة إلى لحظات شعورية مرتبة بشيء ما، أو موقف معين، بحيث تتدفق وتنساب
عبر الزمن حتى يصعب التمييز بين لحظاته. إنه إدراك الذات وللأشياء في ديمومتها واستمراريتها.
أما تعريف الوعي بشكل واضح ونهائي فإنه يطرح صعوبة كبرى أدت ببرجسون إلى ربط الوعي
بالذاكرة التي تحفظ ماضي الإنسان في الحاضر. إن الوعي أيضا قدرة على تجاوز الحاضر
عقليا وتمثل صورة المستقبل. فالإنسان الذي لا ذاكرة لديه لا وعي له، لذلك فشرط
وجود الوعي هو وجود الذاكرة واستقراره بها، ليصبح انفتاحا على الحاضر والماضي والمستقبل.
فعندما نفكر في أي لحظة معينة فإننا نجد هذا الفكر يهتم بالحاضر وبما هو كائن، لكن
من أجل تجاوز ما سوف يكون في المستقبل وهذا يعني أنه لا يوجد وعي عند برجسون دون
مراعاة حياة المستقبل. فالمستقبل هو الذي يجعل الفكر يتقدم باستمرار دون انقطاع في
الزمن ويجره إليه. لفهم طرح برجسون بصدد تعريف مفهوم الوعي نستحضر أنه ينتمي إلى
فلسفة الحياة والسيرورة والحركة،
ونؤكد على مجالين هامين في فلسفته عموما: مجال المادة المتميزة الصلبة، ومجال الحياة والوعي
المتواصل، وهذا يقع في نطاق الحدس فعن طريقه يمكن إثبات الحقيقة متجسدة في
الصيرورة وليست مجرد الحياة والوعي.
3)
موقف ابن رشد
أما إبن رشد فقد تناول مفهوم الوعي في علاقته بالعالم
الخارجي وطرح السؤال: هل الحس شرط لقيام الوعي بموضوعات العالم؟ فهو يرى ابن رشد على
نحو معلمه أرسطو أن الإدراك الحسي شرط أولي وأساسي لقيام كل معرفة ووعي بموضوعات
العالم الخارجي، على خلاف راسل الذي يعتمد منهج الاستبطان بدل منهج الاستقراء في
إدراك العالم الداخلي. ولكن هل الإدراك الحسي بالمعنى الذي تقدم به ابن رشد هو الشرط
الكافي والأولى لقيام كل معرفة وكل وعي بموضوعات العالم الخارجي؟.
4)
موقف ميرلوبونتيي
للإجابة على هذا التساؤل، ينطلق موريس ميرلوبونتيي من فينومينولوجيا
الإدراك الحسي ليصل إلى فينومينولوجيا الوعي والخبرة، لأجل الكشف عن الطابع المفتوح للخبرة البشرية
بصفة عامة. ويقصد بالإدراك الحسي تلك العودة إلى الأشياء والرجوع إلى المعرفة
الأولية عن كل علم من أجل الوصف وليس من أجل التركيب. ويتساءل: هل تعني العالم الخارجي؟ ويقول إن العالم ليس
بمثابة الموضوع الذي يمثل أمام الذات الواعية، إن هذه الذات ليست لها القدرة على تملكه. ولكنه
الوسط الطبيعي أوالمجال الأولي الذي تتحقق فيه إدراكاتنا الحسية لعالم وجل
أفكارنا. إن الوعي الإنساني حسب ميرلوبونتي يدخل في علاقة مشاركة مع العالم
الخارجي، فيه تتحقق الإدراكات الحسية التي
يمكن اعتبارها شرط أساسي لقيام الوعي بهذا العالم.
المحور الثاني:
الــــوعـي واللاوعـي:
1)
موقف مدرسة التحليل النفسي:
إن اللاشعور، أو
اللاوعي، حسب مدرسة التحليل النفسي، هو أهم منطقة سيكولوجية نستطيع بموجبها أن نفهم
سلوكاتنا سواء منها السوية أو الشاذة. ومن هذا المنطلق نستطيع أن نقول بأن الشخصية
في تصور فرويد بمثابة " جبل الجليد ": أي أن ما هو خفي أضخم بكثير مما
يظهر. فكيف يتشكل اللاشعور ؟
يعتقد فرويد أن بناء شخصيتنا يتكون من ثلاثة مكونات، العلاقة فيما بينها هي الكفيلة بتفسير حياتنا
النفسية. وهذه المكونات هي:
·
الهو: وهو نسق سيكولوجي يتألف من
المكونات الغريزية والدوافع والانفعالات الموروثة. ويتمركز الهو حول مبدأ اللذة أوما
يصطلح فرويد على تسميته بنزعة الليبيدو. لأن همه الأساسي هو الحصول على اللذة ودفع
الألم، حيث لا يعرف معنى التأجيل. ومن
خصائص الهو أنه بعيد عن المنطق والعقل لكونه يتصف بالتهور والاندفاع، ولا يتمثل السيرورات المنطقية والأخلاقية … إلخ.
·
الأنا: وهو الجزء من الهو الذي تلاءم
مع الواقع. وهو النظام السيكولوجي الذي يتصف - على عكس الهو - بالتعقل والرزانة
والحكمة. ومن ثمة، فإنه يتمركز حول مبدأ
الواقع، وهمه الأساسي هو تلبية رغبات الهو
بشكل يتلاءم مع الواقع ولا يثير غضب الأنا الأعلى.
·
الأنا الأعلى: وهو النظام النفسي الذي يمثل جميع القيم
الأخلاقية والعادات الاجتماعية. ويتشكل الأنا الأعلى بفعل الأوامر والنواهي (
التربية ) ؛ ومنه نستوحي ما ينبغي وما لا ينبغي القيام به. وهو ما يماثل في حياتنا
النفسية مفهوم المثالية الأخلاقية، وما
يقابل في الاصطلاح الأخلاقي العادي مفهوم الضمير.
إن الأنا إذن يوجد في بؤرة الصراع بين ضغط الهو، ورغبات الواقع، ومتطلبات الأنا الأعلى. ومن هذا المنطلق نفهم
لماذا تقرن الفرويدية الشخصية السوية بقوة الأنا.. فالرغبات التي لن يستطيع
الأنا تلبيتها فإنه يعمل على كبحها ثم كبتها في اللاشعور. هكذا
يتشكل اللاشعور ويتضخم. ولكي يتشكل الأنا بصورة جيدة لابد من إحاطة الطفل بتربية
واعية وتفهم واضح لمراحل النمو الجنسي لديه ( المرحلة
الفمية، المرحلة الشرجية، المرحلة القضيبية، مرحلة الكمون، المرحلة التناسلية )، والعمل على كبت العقدة الأوديبية بطريقة سليمة.
هكذا نستطيع القول بأن الأنا يوجد كذلك تحت ضغط مكبوتات
اللاشعور لأنها تظل يقظة، وتتحين الفرص
التي تضعف فيها رقابة
الأنا لتخرج إلى السطح. والمرض النفسي (اضطرابات الشخصية) عبارة عن تدفق مكبوتات
اللاشعور، وتصريف مفضوح لرغبات الهو...
وحتى لا تصل الشخصية إلى هذه المرحلة الحرجة، فإنها تلجأ (للتخفيف من حدة التوتر النفسي) إلى
ميكانيزمات دفاعية (مثل الكبت، والتبرير، والتقمص، والإسقاط، والنكوص، والإعلاء...الخ). كما أن التحليل النفسي يعتبر
في حد ذاته منهجا علاجيا، وإعادة تربية. ويعتمد
التحليل النفسي، من أجل سبر أغوار اللاشعور، على عدة طرق، أهمها: التنويم المغناطيسي، والتداعي الحر، وتحليل وتأويل تجليات اللاشعور
(الأحلام، فلتات اللسان، زلات الأقلام، النسيان...الخ)
·
إن نظرية فرويد في اللاّوعي تميز بين
فِعْلِيَّةِ السّلوك، وحقيقة السّلوك.
ففعليّة السّلوك تعني الأفعال والأعمال الّتي يقوم بها الفرد، بما هي أفعال وأعمال خامّ وظاهرة. أمّا
المُرَادُ بحقيقة السّلوك، فهو المدلول أو
المعنى الحقيقيّ له، أي العلّة المتخفّية
وغير الظّاهرة فيه. فأنا، مثلا، قد أقوم بعمل ما، كأن أسرق كتابا من على رفّ المكتبة: وهذا الفعل فعلي، من دون شكّ، وسلوكي، إلاّ أنّ حقيقته وما قد يُفَسِّرُ مثل ذلك العمل
الذي قمت به ليست فحسب تلك الظّاهرة بل شيء آخر، أحقّ وأكثر فعليّة، وهو"الهُوَ". فأنا هو الّذي، بلا شكّ قد سرق الكتاب لكن فعل السّرقة ذاك، إنّما هو في حقيقته صورة متفرّعة من فعل معاقبة
الذّات. فنظريّة فرويد ترى بأنّ " الذّات ليست وعيا فقط "، وإنّما هي " وعي وهُو"، أي أنها وعيان اثنان (وعي أول ووعي آخر) ؛ الوعي
الأوّل يكون غير واع بالوعي الآخر، مع
انّه هو الأصل فيه !!؟
2) موقف هوسرل
تقوم نظرية الوعي عند هوسرل على الابتعاد عن التجريبية
والروح السيكولوجية التي تفسر الأحداث التاريخية، وتتوقف عند العمليات العقلية، لتكشف مركبات الوعي ذاته، والظواهر نفسها. يرى هوسرل أن المعنى يسبق اللغة
وهي نشاط ثانوي يسمي المعاني التي بحوزتنا. وهكذا كانت نظرة هوسرل للوعي ماهوية
تعتبر أن العالم ليس سوى شيء يمكن إذابته وتحويله إلى صورة ذهنية. تخيل هوسرل
موقعاً متسيداً للذات المبهمة، التي تطبع
صورتها على العالم. ورجح كفة الذات على حضور العالم. وقد وصفت هذه النظرية، من طرف خصوم هوسرل، بكونها شكلا من أشكال الوعي البورجوازي.
3)
موقف لاكان
إن الهيئات النفسية التي يضعها
فرويد: الأنا الأعلى، والأنا والهو تجد
نفسها داخلة في علاقة تجعل التشبيه المكاني المتضمن فيها يختفي. فالأنا الأعلى
يصبح هو الرمزي Le symbolique، مجال النظام
والقانون، ومكان الخطاب الأبوي (وبذلك
ينخرط التحليل النفسي في الانتروبولوجيا: إذ أن الرمزي هو نظام الثقافة بالمعنى
الاتنولوجي)؛ والأنا يصبح هو المتخيل L’imaginaire، مكان الوهم، والحقيقة، والتغير، والملاحق التجميلية للذات التي هي ملاحق متحركة
وهشة. والهو ليس له مكان إلا مجازا فهو المكان الذي ليس له مكان وهو العلة الغائبة
للبنية، ويطلق عليه لاكان اسم
الواقع Le réel؛ وإنتاجه يقع على مستوى موضوعات الرغبة. وموضوعات
الرغبة، بالنسبة لفرويد، موضوعات متعددة، لكنها تابعة لعلاقة أساسية تحكم كل علاقة مع أي
موضوع يدعوها لاكان العلاقة بالموضوع. ويذهب لاكان بعيدا في إضفاء صبغة نسقية
على الموضوع: فهو يطلق اسم "الموضوع
الصغير" على الموضوع النوعي العام لكل موضوعات الرغبة: الجزئي
والمنفصل، والمهمل؛ وهذا الموضوع هو الأثر
والعلاقة الدالة على الغربة في قلب الذات، وهو علامة على قطيعة لا رجعية فيها.
المحور الثالث:
الإيديولوجيا والوهم
ظهر لفظ الإيديولوجيا لأول مرة بفرنسا بوصفها علما
للأفكار، ويرجع الفضل في نحث المصطلح إلى
دستوت دي تراسي إذ ارتبط به إبان الثورة الفرنسية لسنة 1789، حيث أعطى لهذا المفهوم مدلولين اثنين وهما:
مدلول فلسفي: اعتبر فيه الإيديولوجيا علما أو شبه علم يقوم على الملاحظة
والتجربة كنقيض لتفسير اللاهوت للعالم الذي يعتبره دو تراسي تفسيرا أوليا وطفوليا
بينما الإيديولوجيا كما يتصورها تمثل التفكير الراشد والناضج لارتكازها على
الملاحظة والتجربة.
مدلول إبستمولوجي: باعتبارها « العلم الذي يدرس الأفكار
بالمعنى الواسع لكلمة أفكار، أي مجموع
وقائع الوعي من حيث صفاتها أو قوانينها وعلاقاتها بالعلامات التي تمثلها لاسيما
أصلها»، هكذا يبدو أن دو تراسي حاول أن
يعطي للإيديولوجيا بعدا علميا باعتبارها نسقا من الأفكار والتصورات البعيدة عن
التمثلات اللاهوتية والميتافيزيقية للعالم، فأصبحت الإيديولوجيا بهذا المعنى ضد الأفكار
والأطروحات المحافظة، خاصة وأنها ارتبطت
بالثورة الفرنسية وما أحدثته من تغير في بناء المجتمع الفرنسي، وانعكاسات هذه الثورة على صعيد الأمم الأوروبية.
تأسيسا على الدلالات السابقة، وضدا على مفاهيمها نحث نابليون مدلولا جديدا
للإيديولوجيا حيث اعتبرها أفكار المشاغبين الذين كانوا ضد حكمه ومن ثمة أخذت معنى
انتقاصيا لدلالتها مع دو تراسي إذ أصبح نابليون ينعت خصومه بالإيديولوجيين وذلك في
إطار الصراع السياسي مع معارضيه. وفي هذا الصراع والسجال ظهر ما سمي "سجال
المصطلحات" أو "الإيديوفوبيا" أي الخوف الشديد من الأفكار، فالأفكار تعبر عن المصالح والمطامح أما لالاند
فيعرف الإيديولوجيا بأنها «العلم الذي يتخذ موضعا له دراسة الأفكار، أي العلم الذي يبحث في صفات الأفكار وقوانينها وخاصة
أصولها».
1)
تحديدات بول ريكور لمفهوم
الإيديولوجيا
يرى بول ريكور أن الإيديولوجيا ترتبط
بثلاث استعمالات. يهم الاستعمال الأول معنى الاختلال والتشويه للواقع، وهو المعنى الذي يشيع بين عامة الناس والذي كان
مصدره الماركسية حيث تسند للإيديولوجيا معنى يجعل من الممارسة أساسا لها وأن
الإيديولوجيا مصدر التشويه. أما الاستعمال الثاني فربطه بول ريكور بالشكل الذي
تظهر فيه الإيديولوجيا كظاهرة تشويهية وتزييفية بل يجعلها بول ريكور في هذه الحالة
تبريرية أي أنها تحاول أن تتكلم بلسان الحاكم المسيطر وتشيد الشمولية وحين يبرز
العنف داخلها تتحول الايديولوجيا إلى أداة قهر أكثر من المظاهر العنيفة التي
تخلفها طاحونة الصراع الطبقي. أما الاستعمال الثالث فيربطه بول ريكور بما أسماه
بالإدماج أي أن الجماعة تعمل على استدعاء ذكرياتها الأساسية باعتبارها أحداث أولية
مؤسسة للهوية المحددة لهذه الجماعة، فهذا
الاستعمال يساهم في تكوين عنصر جديد داخل بنية الذاكرة الجماعية.
إن بول ريكور يهدف من وراء تقسيماته هذه للإيديولوجية
إلى تأكيد نقطة محورية لا تنفصل عن عملية الإيديولوجيا نفسها وهي حضور الوهم
لتبرير وصفي لاسترداد الذكريات لتحقيق الإدماج.
2) الإيديولوجيا عند الماركسيين
إن الإنسان عند الماركسيين كائن اجتماعي في جوهره، وبدون المجتمع لا يستطيع الإنسان العيش، إذ لا يمكنه أن ينتج الشروط الضرورية للحياة
اللازمة لبقائه إلا في إطار المجتمع، ولكن أدوات ذلك الإنتاج تعود لكي تحدد أول ما
تحدد العلاقات الإنسانية. ويرى ماركس استحالة فصل وعي الناس عن وجودهم الاجتماعي ويعطي
للحياة الاجتماعية أهمية أساسية تحديد الوعي بل يجعلها هي التي تحدد الوعي.
إن الايديولوجيا، في نظر ماركس ورفيقه انجلز، «ليست سوى التعبير
الفكري عن العلاقات السائدة في المجتمع تلك العلاقات التي تجعل من طبقة ما الطبقة
السائدة على الطبقات الأخرى». بهذا المعنى فالايديولوجيا مجموع الأفكار الذي تسود
المجتمع الطبقي والذي ترسم بفعل الشروط المادية والروحية القائمة على صورة ناقصة ومشوهة
للعلاقات السائدة فيه. يقول انجلز: «الإيديولوجيا هي نشاط فكري ذلك الذي
يدعى مفكر واعي في حين أنه إنما يصدر عن وعي زائف مغلوط ذلك لأن القوى الحقيقية
المحركة له تبقى مجهولة لديه، وإلا لما
كان نشاطه الفكري ذاك إيديولوجيا». إذن هي البناء الفكري النظري القائم على وعي
مزيف لكونه يجهل مكوناته الموضوعية.
وقد وسع كل من ماركس وأنجلز فيما بعد مفهوم الإيديولوجيا
فجعلاه البنية الفوقية برمتها لعصر من العصور التاريخية أي مجموع النتاج الفكري، من أدب وفن وفلسفة ودين وأخلاق وتشريع بحيث يسود
مجتمعا من المجتمعات في عصر من العصور التاريخية.
أما لينين فيميز بين الإيديولوجيا البرجوازية
والبرجوازية الاشتراكية، الأولى هي النسق
الفكري الذي تقيمه البرجوازية لتخدع به نفسها وتخدع غيرها من الطبقات المضطهدة، والثانية هي المذهب الذي يقود كفاح الطبقة
العاملة وتنير لها الطريق والذي يأتي من الممارسة النظرية، للمثقفين الثوريين الذين ربطوا مصيرهم بنضال وكفاح
الطبقة العاملة.
بينما يميز مانهايم بين الإيديولوجيا الجزئية أو الخاصة،
والإيديولوجيا الكلية أو العامة فالأولى
تعني مجموع الأفكار التي يعتنقها الشخص والتي يرى من خلالها حضوره مجرد غطاء شعوري
لتحقيق الموقف الذي يصدر عنه، والذي لا
يعبر بصراحة لأنها تعارض مصالحه، فهي بهذا
المعنى تبريرية تعمل على صرف النظر عن فحواها. أما الثانية فهي مجموع التصورات
التي تعتنقها جماعة ما تبريرا لموقفها داخل المجتمع.
3)
تصور نيتشه للأيديولوجيا
يبرز نيتشه الطابع الأكثر سطحية وسوءا للوعي، بمعنى أن الوعي لدى الإنسان رغم تطوره في
المستويات فإنه لا يدرك معنى وعيه لأفعاله وأفكاره ومشاعره، بل حتى حركاته فهو دائما يفعل نتيجة لإرادة
قاهرة جاءت في صفة أمر (يجب عليك)، وهو هنا
يؤكد مقولة العدمية التي تسيطر على الإنسان، فهو لا يعرف معنى الفكر الذي أصبح وعيا فالوعي
عند نيتشه لا يعدو أن يكون أكثر من أجزاء الفكر السطحية وأكثرها سوءا.
إن بالإمكان، حسب نيتشه، أن يعيش الإنسان حياته في استقلال عن الوعي
تماما. لما كانت الحياة البشرية معرضة للهلاك بوصفها حياة يؤطرها الصراع من أجل
البقاء اضطر الإنسان أن يعبر عن نفسه في كلمات، ومن ثمة يكون نمو اللغة ونمو الوعي متلازمين.
هكذا اختلق الإنسان لنفسه أوهاما أصبحت تؤطر حياته وأضفى عليها صبغة حقائق تقنن
واقعه (كالواجب والمسؤولية، والحرية
…إلخ). فالحقائق في العمق ليست إلا أوهاما منسية.