درس مشكلة موضعة الظاهرة الإنسانية / مفهوم العلمية في العلوم الإنسانية / مجزوءة المعرفة
خطاطة الدرس (قيد الإعداد)
فيديو الدرس (قيد التسجيل)
ملخص الدرس
مفهوم العلمية في العلوم الإنسانية
تقديم المفهوم
إن كان الإنسان
ومنذ أمد تاريخي بعيد هو تلك الذات الحاملة للمعرفة العلمية، والتي استطاعت
السيطرة
على الطبيعة واستكناه جوهر نظمها وحتمياتها وقوانينها؛ فإنه وبعد أن تمكن فعلا
من
الاستحواذ على تلك الطبيعة، سيصير هو نفسه موضوعا للمعرفة. وهي المعرفة التي تم
تأطيرها
ضمن ما يسمى بالعلوم الإنسانية؛ كعلوم تسعى إلى دراسة هذا الإنسان، قياسا
واستلهاما
للنموذج الناجح في العلوم الحقة. وهنا سيبدأ التفكير في إمكانية الوصول إلى معرفة
موضوعية
بذات الإنسان، سواء كانت تلك المعرفة قائمة على نهج العلوم الطبيعية أم على
مبتكراتها
المنهجية الخاصة التي يمكن أن تميزها في ذاتيتها وشموليتها، وتعكس علميتها. لكن
في
هذه النقطة بالتحديد، ستصطدم العلوم الإنسانية بجملة من الصعوبات على مستوى موضعة
الظاهرة
الإنسانية، وعلى مستوى المنهج الملائم لموضوعها والنموذج الذي يصلح للاختبار
عليها.
فكان أن طرحت الإشكالات التالية عليها: ألا تستطيع العلوم الإنسانية أن تقدم معرفة
موضوعية
وعلمية بالظواهر الإنسانية؟ وهل يمكن موضعة هذه الظواهر وتفسيرها سببيا؟
أم
أنه ينبغي في مقابل التفسير الوضعي السببي فهم الفعل الإنساني وتأويله؟ ثم، هل يمكن
لهذه
العلوم تقليد النموذج العلمي التجريبي الدقيق على الظاهرة الإنسانية أم أن خصوصية
هذه
الظاهرة المتميزة بفرادتها وتعدد أبعادها تلغي هذه الإمكانية؟ وإذا كان الخيار الثاني
هو المرجح، فما هو نموذج العلمية الذي تقترحه العلوم الإنسانية إذن؟
المحور الأول : موضعة الظاهرة الإنسانية
تأطير إشكالي للمحور
تطرح علمية
علوم الإنسان مسألة إمكانية موضعة الظاهرة الإنسانية أو استحالتها موضع نقاش،
يجعلنا نصوغ مشكلتها هاته كما يلي: هل تستطيع العلوم الإنسانية أن تنتج معرفة
موضوعية وعلمية للظواهر الإنسانية؟ بمعنى آخر، هل يمكن أن يكون الإنسان ذاتا للمعرفة
وموضوعا لها في الآن نفسه؟ ثم ألا يشكل تداخل ذات الدارس بموضوع الدراسة عائقا
أمام تحقيق موضوعية العلوم الإنسانية؟
موقف جون بياجي:
إن صعوبة تحقيق
الموضوعية في العلوم الإنسانية على غرار العلوم الحقة ناتجة عن تلك العلاقة التداخلية
المعقدة بين الذات والموضوع، فالإنسان هو الدارس، وهو أيضا موضوع الدراسة، إنه جزء
من الظاهرة التي يجب أن يدرسها من الخارج، كما أنه أكثر ميلا للاعتقاد في معرفته الحدسية
بالوقائع لانخراطه فيها وإضفائه قيما محددة عليها، وهذا ما يقف عائقا أمام تحقيق موضوعية
العلوم الإنسانية، والتي لن تتحقق بالفعل إلا بإزالة تمركز الذات حول ذاتها لتكون أكثر
حيادية وموضوعية. (العالم لا یکون أبدا عالما معزولا،
بل هو ملتزم بشكل ما بموقف فلسفي أو إيديولوجي).
موقف فرانسوا باستيان:
إذا كانت مجهودات
علماء الاجتماع وأبحاثهم قد سارت في اتجاه تحقيق تباعد الباحث عن جماعته والتحكم في
انخراطه فيها احتراما لمبدإ الحياد العلمي، فإن هذه المسألة ظلت مفارقة كبرى يعيشها
الممارس الباحث في مجال العلوم الاجتماعية، فهو جزء من الجماعة التي يدرسها، وفي نفس
الوقت مطالب بالتموضع خارج جماعته الاجتماعية تلك، وأن يبقى في منأى عن قيمه وتصوراته،
ومن ثم فهو لا يقدر على أن يكون محايدا حتى ولو رغب في ذلك. وعليه فموضعة الظاهرة الإنسانية
تبقى مسألة مستبعدة التحقق. (لا يمكن للباحث الانعزال
أو الابتعاد عن العالم الاجتماعي، حتى لو رغب في ذلك).
موقف لوسيان غولدمان:
يؤكد على الاختلاف الجذري الحاصل بين شروط عمل علماء
العلوم الإنسانية وشروط عمل علماء العلوم الحقة، وذلك راجع إلى التصاق الذات العارفة
بموضوع المعرفة، مما يبقي على عجز العلوم الإنسانية عن استيفاء شروط الموضوعية لأن
الباحث في تصديه للظاهرة الإنسانية لا يستطيع أن (يضع ذاته بين قوسين) ويجد عسرا في
التخلص من أحكامه القبلية ومواقفه المضمرة ونوازعه اللاواعية. مما يجعل موضعة الظاهرة
الإنسانية أمرا مستحيلا. (إن الباحث يتصدى في الغالب،
للوقائع مزودا بمفاهيم قبلية ومقولات مضمرة ولاواعية تسد عليه طريق الفهم الموضوعي
بشكل قبلي).
موقف دوفرين:
يرفض اعتبار الإنسان موضوعا مثل بقية موضوعات الطبيعة،
لما في الأمر من استلاب لسمات الإنسان الوجودية وخصائصه المميزة له، والتي تضفي عليه
طابعه المتفرد. ولهذا ينبغي النظر إلى الإنسان في تعدد وتفرد أبعاده (اللغة، اللاوعي،
التاريخ...)، على اعتبار أن الظواهر الإنسانية الملتصقة به، تتميز بدورها بتعدد أبعادها
على عكس الظواهر الطبيعية، وهذا يستوجب مراعاة خصوصية الظاهرة الإنسانية، وتفادي أي
تضييع لها أو أية محاولة لإفقادها مميزاتها وهويتها. (لقد
فقد الإنسان إحداثياته بالنسبة للعلم... ولكن مع ذلك يظل الإنسان هو هذا الإنسان عينه.
أي الفرد.
أي ذاك الذي يشبهني ويختلف عني أيضا).
موقف بوفريس:
رغم نجاح العلوم الإنسانية في حسم التنافس مع الفلسفة،
بعد أن بدت كأنها أخر فتوحات الروح العلمية، خصوصا وأنها نشأت في نهاية القرن التاسع
عشر، في سياق إبيستمولوجي مخصوص يطبعه الطموح في تطبيق النموذج الفيزيائي التجريبي
على دراسة الإنسان، فإنها مع ذلك لم تستطع أن تفي بشرط الموضوعية، لأن المعرفة التي
يكونها الإنسان عن نفسه تبقى دائما، وبعيدا عن أن تكون محايدة، بل مشبعة بالذاتية.
مما يعيق تحقق الموضوعية في العلوم الإنسانية، (من
المستحيل مبدئيا أن تتمكن العلوم الإنسانية من بلوغ موضوعية مطلقة، أو على الأقل التخلي
عن جزء من أهدافها والاكتفاء بدراسة المظاهر الأولية من الحقيقة أو الواقعة الإنسانية).
موقف كلود ليفي ستراوس:
يرى بأن المصادرة التي يقوم عليها البحث
العلمي، والمتجلية في ثنائية الذات الملاحظة والموضوع الملاحظ، لا تقف عند حدود
العلوم الإنسانية، بل تمتد إلى جل العلوم الدقيقة والطبيعية. وإذا كانت العلوم
الاجتماعية والإنسانية علوما بالفعل، فهي ملزمة بالمحافظة على هذه الثنائية والعمل
على نقلها إلى داخل الإنسان حتى تترسخ القطيعة التي تفصل بين الإنسان الملاحِظ
والإنسان الملاحَظ. وهذا الأخير لا ينبغي أن يكون موضوعا للتجربة فقط، بل أن لا
يشعر أنه كذلك، وإلا تدخل وعيه لتغيير مسار التجربة. (هكذا
يبدو أن الوعي هو بمثابة العدو الخفي لعلوم الإنسان، إنه وعي عفوي يتخذ مظهرين؛
أحدهما يرتبط بموضوع الملاحظة وثانيهما بالفكر، أي بالوعي المفكر - أو وعي الوعي -
لدى العالم).
موقف ميشيل فوكو:
إذا كانت العلوم الإنسانية تهتم بالإنسان باعتباره
يتميز بمجموعة من الخصوصيات (اللغة، الحياة، الشغل...)، فإن هذه الأشياء تتشاركه معها
مجموعة من العلوم الأخرى كعلم الاقتصاد وعلم الأحياء والفيلولوجيا. وبالتالي فالظاهرة
الإنسانية، باعتبارها ظاهرة معقدة ومركبة ومتعددة الأبعاد، تبقى نقطة لتقاطع مجموعة
من العلوم؛ مما يجعل دراستها أمرا صعبا. (يمكننا إذن
تحديد موقع العلوم الإنسانية في نقطة التجاور، وفي الحدود المباشرة وعلى طول هذه العلوم
التي تهتم بمسألة الحياة أو الشغل أو اللغة).
تركيب عام للمحور
هكذا إذن، تجمع جل التصورات تقريبا
على أن موضعة التظاهرة الإنسانية مسالة تواجهها مجموعة من الصعوبات، فمن جهة،
هنالك تداخل بين الذات والموضوع، يتعذر معه فصل ذات الباحث الاجتماعي (الذات
الملاحظة) عن موضوع الدراسة (الموضوع الملا حظ). ومن جهة أخرى، يضاف إلى ذلك أن
هذه الظاهرة الإنسانية المشبعة بالذاتية هي ظاهرة متفردة ومتعددة الأبعاد لا يمكن
اختزالها في عنصر واحد لأن ذلك من شأنه أن يفقدها خصوصياتها.